الجمهورية الإسلامية والشعب الايراني: فهم الانقسام في ظل الأزمات المتصاعدة
كيف تصطدم هوية إيران الحضارية بالنظام الثيوقراطي... ولماذا تكشف الأزمة الحالية بعد الحرب هذا الانقسام
دولة في صراع مع ذاتها
تعيش إيران اليوم حالة انقسام داخلي عميق، حيث انفجرت الهوة بين هويتها الوطنية الضاربة في عمق التاريخ، وأيديولوجيا الجمهورية الإسلامية الصارمة، في شكل أزمة متعددة الأبعاد. وبينما تستهدف الحملة العسكرية الإسرائيلية البنية النووية والعسكرية للنظام، كشفت الفوضى الناتجة عن ذلك مدى الانفصال الجذري بين شعبٍ يتكئ على إرث حضاري عريق ومتعدد، ونظامٍ يحكم بالقمع، ويعتمد على عقيدة أيديولوجية صارمة وسياسات توسعية في المنطقة.
في ظل هذا الواقع، بات كثير من الإيرانيين يرفضون الجمهورية الإسلامية، لا كحكومة فقط، بل كفكرة ونظام، ويتطلعون إلى مستقبل يُجسّد طموحاتهم الوطنية الحقيقية، ويعيد لإيران وجهها الحضاري التعددي بعيدًا عن سلطة العقيدة المفروضة والوصاية السياسية. إن الصراع اليوم ليس فقط مع العالم الخارجي، بل هو في جوهره صراع داخلي بين هوية أمة ونظام يحاول مصادرتها.
من الحضارة إلى الثيوقراطية: إيران ليست الجمهورية الإسلامية التي تحكمها
إيران ليست مرادفًا للجمهورية الإسلامية. فهي، التي كانت تُعرف سابقًا ببلاد فارس، تمثل حضارة تمتد لأكثر من 2500 عام، بإرث ثقافي وسياسي يسبق بقرون ظهور حكم الملالي. وعلى الرغم من أن الإسلام ترك بصمته العميقة في تشكيل هوية إيران، إلا أنه لم يمحُ الطابع الفارسي المتجذّر فيها.
كما يؤكد المؤرخون: "إيران أسلمت، لكنها لم تتعرب." — في إشارة إلى أن البلاد احتفظت بلغتها وثقافتها القومية رغم التحولات الدينية. وبينما تحاول الجمهورية الإسلامية اختزال الهوية الإيرانية ضمن إطار ديني عقائدي ضيّق، تظل إيران، في جوهرها، أمة حضارية تتجاوز بكثير حدود النظام القائم.
لكن في عام 1979، تم تهميش ذلك الإرث الحضاري سياسياً. فالجمهورية الإسلامية، التي وُلدت من عقيدة آية الله الخميني في "ولاية الفقيه"، دمجت الدين بالدولة تحت سلطة رجال دين غير منتخبين. وفرضت هذه المنظومة إطارًا أيديولوجيًا صارمًا يقوم على معاداة الغرب، وتفوق الشيعة، ومهمة تصدير الثورة، على مجتمع إيراني متنوع الهوية والثقافة — بات يُبدي رفضًا متزايدًا لهذا النهج المفروض من أعلى.
تصعيد عسكري... وتشتيت سياسي
الهجمات الصاروخية التي شنّتها الجمهورية الإسلامية على إسرائيل، عقب اغتيال أحد كبار قادة الحرس الثوري، لا تبدو مدفوعة بمنطق الردع بقدر ما هي محاولة لصرف الأنظار. فإيران اليوم تغرق في أزمات داخلية خانقة: تضخم يتجاوز 30%، عملة منهارة، وبطالة مزمنة. في هذا السياق، يُستخدم الخطاب الحربي كأداة لتعبئة شعب فقد ثقته بمشروع النظام.
مغامرات النظام الخارجية — من دعم حزب الله وحماس إلى الحوثيين — لا تنبع من مصالح وطنية، بل من حاجة أيديولوجية للبقاء. فهي تعزز سردية "محور المقاومة"، رغم أن الغالبية الساحقة من الإيرانيين باتت ترفض هذه الاستراتيجية الجيوسياسية المكلفة، التي تستنزف موارد البلاد دون عائد ملموس.
حتى البرنامج النووي، الذي كان في يوم من الأيام رمزًا للفخر القومي والتحدي، فقد بريقه الشعبي بعد احتجاجات مهسا أميني في 2022، مع تصاعد العقوبات الدولية وتعمّق العزلة الاقتصادية التي فاقمت معاناة المواطن الإيراني العادي.
المقاومة الحقيقية داخلية: ثورة النساء في وجه النظام
انقلب قمع النظام الإيراني للنساء عليه، فأصبح الوجه الأبرز للمقاومة الوطنية نسائيًا بامتياز. من قوانين الحجاب الإجباري، إلى الإقصاء من الحياة العامة، وصولًا إلى العنف الممنهج، تحوّلت المرأة الإيرانية إلى رمز للتحدي الشعبي ضد سلطة تُحاول فرض سيطرتها عبر الجسد واللباس والسلوك.
وكان مقتل مهسا أميني في عام 2022، بسبب ما قيل إنه "خرق لقانون الحجاب"، الشرارة التي أطلقت حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، التي قادتها النساء وتوسعت بسرعة إلى احتجاجات شاملة اجتاحت البلاد. لم تكن تلك التظاهرات تطالب بتعديلات سطحية أو إصلاحات محدودة، بل برحيل النظام نفسه.
لقد كشفت ثورة النساء عن عمق الغضب الشعبي ضد نظام قائم على الإقصاء والوصاية، وأظهرت أن التغيير الحقيقي في إيران لن يأتي من الخارج أو من خلال الاتفاقات الدولية، بل من الداخل... من نساء قلن "لا" في وجه الاستبداد الديني.
المصدر: ويكيميديا كومس
الجيل الصاعد... الغضب يتجاوز الإصلاح
يقود الجيل الإيراني الشاب — الذي وُلد في ظل الجمهورية الإسلامية لكنه يشعر بالاغتراب عنها — موجة الغضب الشعبي المتصاعدة. فهؤلاء الشباب لم يطالبوا بتحسين شكل النظام، بل برفضه من الأساس. أكثر من 45% من النساء الحاصلات على شهادات جامعية بين سن 25 و29 عاماً يعانين من البطالة، وهو رقم يكشف فشل النظام اقتصاديًا واجتماعيًا، ويعكس شعورًا واسعًا بأن "الجمهورية الإسلامية ليست حكومة، بل سجن"، كما يردد كثير من الشباب الإيرانيين.
الأقليات في مرمى الاستبداد
الأقليات العرقية والدينية — من الأكراد والبلوش والعرب إلى السنّة والبهائيين — تتعرض لتهميش ممنهج في ظل نظام يمزج بين القومية الفارسية والمذهب الشيعي، ما يخلق بيئة تقصي كل من لا يتطابق مع هذا النموذج. أصبحت مناطق مثل سيستان-بلوشستان والأهواز بؤرًا دائمة للمقاومة الشعبية، وفي الوقت نفسه أهدافًا للقمع الأمني العنيف.
الانهيار القادم
لم تعد الجمهورية الإسلامية تمثل الشعب الإيراني. فقدت شرعيتها، واقتصادها ينهار، وسياستها الخارجية باتت تهدد أمن البلاد بدلًا من حمايته. الحرب الجارية مع إسرائيل لا توحّد الإيرانيين خلف النظام، بل تفضح هشاشته وتعزز الفجوة بين الحاكم والمحكوم.
لقد تحوّل هذا الانقسام الداخلي إلى خط الصدع المركزي في الشرق الأوسط. وإذا نجحت الضغوط الداخلية واستمرت حركة التحرر الوطني داخل إيران، فقد لا تصمد الجمهورية الإسلامية أمام أزمتها المقبلة. فالسؤال لم يعد: هل ستربح طهران حربها مع إسرائيل؟ بل: هل ستنجو من ثورة شعبها القادمة؟






