تقرير خاص | من باندونغ إلى تل أبيب: تحوّل صامت في دبلوماسية إندونيسيا
برابوو سوبيانتو يفاجئ العالم في الأمم المتحدة... ودبلوماسية جاكرتا تتأرجح بين دعم فلسطين والانفتاح الحذر على تل أبيب
جاكرتا – خيبر أونلاين
في مشهد لم يكن مألوفًا على الإطلاق في تاريخ الدبلوماسية الإندونيسية، افتتح الرئيس برابوو سوبيانتو خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بتحية “شالوم”، داعيًا إلى “ضمان أمن إسرائيل كشرط لتحقيق السلام الحقيقي في الشرق الأوسط”.
تلك الكلمة القصيرة كانت كافية لإشعال جدل واسع داخل أكبر دولة إسلامية في العالم، إذ بدت وكأنها تفتح الباب أمام تحول جذري في موقف جاكرتا من الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
تحول مفاجئ في الخطاب الإندونيسي
منذ استقلالها، حافظت إندونيسيا على موقف ثابت برفض أي علاقة رسمية مع إسرائيل، بل كانت من المدافعين التقليديين عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية.
لكن ظهور برابوو، العسكري السابق الذي تولى الرئاسة في أكتوبر الماضي، جاء مصحوباً بخطاب أكثر براغماتية وجرأة.
فالرئيس الجديد، الذي حضر قمة شرم الشيخ للسلام إلى جانب الرئيسين المصري والأميركي، تحدث صراحة عن “استعداد بلاده للاعتراف بإسرائيل إذا اعترفت هي بدولة فلسطينية مستقلة”، في تصريحٍ وصفته الصحافة الإسرائيلية بـ “التاريخي”.
بين قاعة الأمم المتحدة وتكهنات تل أبيب
تزامنت كلمة الرئيس مع أنباء عن زيارة وشيكة له إلى إسرائيل، لتكون الأولى من نوعها، ما زاد من غموض المشهد.
ولم تهدأ الشائعات رغم نفي وزارة الخارجية الإندونيسية الرسمي، إذ نقلت صحف إسرائيلية أن سوبيانتو “تراجع عن الزيارة بعد تسريب الخطة”، بينما تحدثت أخرى عن “موجة تطبيع جديدة في الأفق الآسيوي”.
حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو زاد الغموض عندما طلب تأجيل جلسة محاكمته معللًا ذلك بـ“زيارة سياسية عاجلة ومهمة للغاية”، من دون تفاصيل.
دعم فلسطين… بلغة جديدة
ورغم إشارات الانفتاح، لم تتخلَّ جاكرتا عن خطابها المؤيد للقضية الفلسطينية.
فقد رفعت دعاوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، ومنعت رياضيين إسرائيليين من دخول البلاد، في استمرارٍ لسياسة المقاطعة الثقافية والرياضية.
وتؤكد الأكاديمية ديوي فورتونا أنور، المستشارة السابقة للرئيس الإندونيسي الأسبق حبيبي، أن “جاكرتا لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات حدود معترف بها دوليًا”، مشيرة إلى أن هذا المبدأ “أُقرّ منذ مؤتمر باندونغ عام 1955”.
سياسة “الحرية النشطة” بثوب براغماتي
يبدو أن الرئيس سوبيانتو يحاول إعادة تعريف مبدأ “Bebas Aktif” (الحرية النشطة) الذي لطالما شكّل ركيزة السياسة الخارجية الإندونيسية، بحيث يجمع بين الحياد التقليدي والانخراط السياسي الفعّال.
يقول الباحث يوهانيس سليمان لـ”خيبر أونلاين”:
“سوبيانتو يسعى لإبراز دور إندونيسيا كوسيط سلام عالمي، لكنه يدرك في الوقت ذاته أن الشارع الإندونيسي يرفض أي تقارب مع إسرائيل، لذلك يتحرك بحذر شديد”.
التطبيع مقابل النفوذ الاقتصادي
وراء التحولات السياسية تكمن دوافع اقتصادية لا تخطئها العين.
فجاكرتا تسعى منذ سنوات للانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، لكن إسرائيل تمتلك حق النقض داخل المنظمة، ما جعل ملف التطبيع يرتبط مباشرة بطموح إندونيسيا الاقتصادي.
كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أن مفاوضات سرية جرت بين الطرفين برعاية الأمين العام للمنظمة، فيما اشترطت تل أبيب إقامة علاقات رسمية قبل دعم عضوية جاكرتا.
ومع تعثر المسار الغربي، اختارت إندونيسيا الانضمام إلى مجموعة بريكس مطلع عام 2025، في محاولة لإعادة التوازن إلى سياستها الخارجية.
بين ضغط الشارع وانتظار السعودية
في الداخل، يواجه سوبيانتو جدارًا من المعارضة الشعبية والبرلمانية لأي خطوة تطبيعية.
ويقول مراقبون إن الرئيس ربما ينتظر أن تُقدِم السعودية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل أولاً، لتشكل مظلة شرعية تغطي التحول الإندونيسي لاحقًا.
ويشير سليمان إلى أن “تطبيع السعودية سيُعتبر نقطة تحول رمزية في العالم الإسلامي، وستتخذه إندونيسيا غطاءً لتقارب تدريجي مع تل أبيب دون خسارة دعمها الشعبي لفلسطين”.
ما بعد “شالوم”
حتى الآن، يبدو أن إندونيسيا تختبر حدود الخطاب الدبلوماسي أكثر من نيتها في تنفيذ تغيير حقيقي.
فجاكرتا تتحدث بلغة “الاعتراف المشروط”، وتوازن بين طموح دولي في لعب دور سياسي مؤثر، والتزام تاريخي تجاه فلسطين.
لكن بقاء هذا التوازن صعب في ظل التحولات الإقليمية بعد اتفاق غزة والاصطفافات الجديدة في العالم الإسلامي.
وما بين قاعة الأمم المتحدة ودهاليز السياسة الآسيوية، تبقى كلمة “شالوم” التي نطقها الرئيس الإندونيسي علامة على بداية مرحلة جديدة في دبلوماسية جاكرتا — مرحلة الغموض بين التحالف والهوية.



