التمدد التركي في سوريا.. نفوذ شمالي يثير مخاوف من مواجهة مع إسرائيل في الجنوب
في بلدة صغيرة بإدلب، يمدّ طفل سوري يده ببضع ليرات تركية مقابل قطعة شوكولاتة. في الخلفية، يبثّ تلفاز قديم خطابًا للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع يؤكد فيه على “وحدة سوريا”. المشهد، ببراءته، يلخص التناقض
التمدد التركى في سوريا.. نفوذ شمالي يثير مخاوف من مواجهة مع إسرائيل في الجنوب
في بلدة صغيرة بإدلب، يمدّ طفل سوري يده ببضع ليرات تركية مقابل قطعة شوكولاتة. في الخلفية، يبثّ تلفاز قديم خطابًا للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع يؤكد فيه على “وحدة سوريا”. المشهد، ببراءته، يلخص التناقض: الأرض سورية، لكن العملة والاقتصاد والسلطة الفعلية تركية.
مرحلة ما بعد الأسد: مشهد حديد
سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 فتح الباب أمام تغييرات جذرية في الخريطة السورية. ومع تراجع النفوذ الروسي والإيراني، برزت أنقرة كقوة رئيسية توسع حضورها السياسي والعسكري والاقتصادي، فيما تتابع إسرائيل بقلق تمددها في الجنوب. الباحث مايكل جونتر من جامعة تينيسي لخص الصورة بقوله: “روسيا وإيران غادرتا المشهد جزئيًا.. وتركيا وإسرائيل بقيتا لاعبين رئيسيين في سوريا ضعيفة”.
أنقرة بين الأمن واللاحئين
المحرّك الأساسي للتدخل التركي يبقى مواجهة حزب العمال الكردستاني وحلفائه، وعلى رأسهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وإلى جانب ذلك، تسعى أنقرة لإدارة ملف ملايين اللاجئين عبر إعادة توطينهم في مناطق شمالية خاضعة لسيطرتها.
منذ 2016، نفذت تركيا ثلاث عمليات عسكرية كبرى (“درع الفرات”، “غصن الزيتون”، “نبع السلام”) مكنت قواتها من السيطرة على شريط واسع شمال البلاد. هناك، أقامت أنقرة هياكل إدارية وخدماتية تركية بالكامل، من الكهرباء والاتصالات إلى المدارس والمستشفيات، ما جعل هذه المناطق امتدادًا طبيعيًا لتركيا أكثر منها جزءًا من سوريا.
التنسيق العسكري والافتصادي
إلى جانب رعايتها لـ”الجيش الوطني السوري”، طورت أنقرة علاقة براغماتية مع هيئة تحرير الشام، التي لعبت دورًا محوريًا في إسقاط الأسد. التقارير الغربية، بينها ما أورده جونتر، تشير إلى أن تركيا قدمت دعمًا عسكريًا واستخباراتيًا مهمًا لـ”الهيئة”، في تحول يعكس أولوياتها الأمنية.
اقتصاديًا، عززت تركيا ارتباط سوريا بها عبر مشاريع الطاقة والبنية التحتية. فقد مدّت خطوط غاز من أذربيجان إلى شمال سوريا بتمويل قطري، كما دخلت شركات تركية بقوة في قطاعات الكهرباء والهاتف والإنشاءات. هذا التغلغل جعل سوريا رهينة جزئيًا للمصالح التركية، خصوصًا مع اقتراب مرحلة إعادة الإعمار.
فلق إسرائيلى متصاغد
بالنسبة لإسرائيل، النفوذ التركي في سوريا لم يعد مجرد مسألة ثانوية. ورقة بحثية صادرة عن كارنيغي للسلام الدولي حذرت من أن تل أبيب تعتبر أنقرة تهديدًا استراتيجيًا متناميًا، يفوق في بعض مراحله التهديد الإيراني.
المخاوف الإسرائيلية تتصل باحتمال أن تستخدم أنقرة نفوذها لتعزيز موقعها في المعادلة الإقليمية أو حتى لدعم جماعات مناوئة لإسرائيل. في المقابل، تخشى تركيا من دعم إسرائيلي محتمل للأكراد السوريين، كما ترى في انفتاح تل أبيب على المجتمع الدرزي السوري تحديًا مباشرًا لنفوذها.
حطر التصادم والوساظة الأميزكية
التباين بين أنقرة وتل أبيب حول مستقبل سوريا ينذر بصدام غير مباشر. فتركيا تريد دولة مركزية قوية تحرم الأكراد من أي حكم ذاتي، بينما إسرائيل تراقب التمدد التركي كخطر متصاعد على حدودها.
في هذا السياق، يبرز الدور الأميركي كعامل توازن محتمل. تقارير كارنيغي شددت على ضرورة أن تكون واشنطن استباقية لتجنب تحوّل سوريا إلى ساحة مواجهة بالوكالة بين إسرائيل وتركيا، خاصة في ظل احتمال استغلال الطرفين للتوترات الخارجية من أجل تعزيز شرعيتهما الداخلية.
سيناريوهات المستقبل
المشهد السوري اليوم مفتوح على عدة احتمالات. السيناريو الأول يتمثل في تفاهم تركي–إسرائيلي برعاية أميركية، يقوم على تقاسم النفوذ في الشمال والجنوب مقابل ضبط الجماعات المسلحة وضمان مصالح الطاقة والبنية التحتية. مثل هذا التفاهم قد يخفف التوتر ويمنع انزلاق سوريا إلى صدام إقليمي مباشر.
أما السيناريو الثاني فهو صراع بالوكالة، حيث تسعى كل من أنقرة وتل أبيب لتعزيز حضورها عبر دعم حلفاء محليين: تركيا عبر فصائل الشمال والجيش الوطني، وإسرائيل عبر الأقليات مثل الدروز وربما بدعم غير مباشر للأكراد. هذا المسار يهدد بتحويل سوريا إلى ساحة مواجهة جديدة بين قوتين إقليميتين نافذتين.
السيناريو الثالث هو توازن هشّ قائم على الأمر الواقع، بحيث يستمر النفوذ التركي في الشمال مع بقاء النفوذ الإسرائيلي في الجنوب، من دون مواجهة مباشرة. لكن هذا الاحتمال يظل هشًا، إذ يمكن أن ينهار سريعًا مع أي تغير ميداني أو عملية عسكرية غير محسوبة.
في جميع الحالات، تبقى الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على منع التصعيد المباشر بين إسرائيل وتركيا، فيما يظل الشعب السوري الخاسر الأكبر، عالقًا بين مشاريع النفوذ الإقليمي وصراع القوى الكبرى.



