غزّة... سلام على الورق وواقع يشتعل
بين الخط الأصفر ووعود الإعمار: سلام بلا أرض وواقع بلا أمل
خطة واشنطن بين الخط الأصفر وحدود المستحيل
بينما تتحدث الدبلوماسية الدولية عن “اليوم التالي لغزّة”، يعيش القطاع واقعًا مختلفًا تمامًا عن خرائط المفاوضين. فخطة السلام الأميركية التي تتحدّث عن نزع سلاح حماس، انسحاب إسرائيل، ونشر قوة استقرار عربية ودولية، تبدو اليوم أقرب إلى نظريةٍ على الورق منها إلى مشروع سياسي قابل للحياة.
نزع السلاح: العقدة التي تفرّغ الخطة من مضمونها
الركيزة الأولى في الخطة الأميركية هي نزع سلاح حماس، غير أن هذا الشرط بدا منذ البداية مستحيلًا.
عام كامل من الحرب أظهر حدود القوة العسكرية الإسرائيلية أمام حركةٍ سرّية متجذّرة في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، قادرة على إعادة تنظيم صفوفها في بيئة حضرية مكتظة.
حتى تقييمات الجيش الإسرائيلي نفسها تعترف بأن آلاف المقاتلين لا يزالون نشطين، وأن خطوط النار في غزّة لم تُطفأ بعد رغم وقف القتال.
الدول العربية، من جانبها، ترفض أن تكون أداة نزع السلاح. الأردن ومصر أكّدتا أن مهمة “فرض السلام” ليست مطروحة سياسيًا ولا عمليًا، وأن دورهما لا يتجاوز المساعدة في بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لا محاربة الفلسطينيين.
أما الرأي العام الفلسطيني، فيقف على طرف النقيض من الخطة: فبحسب استطلاعات حديثة، ترفض الأغلبية الواسعة أي وجود عربي مسلح لنزع سلاح حماس، بل إنهم يرفضون فكرة نزع السلاح أصلًا، معتبرين إياها مساسًا بكرامتهم الوطنية.
وهكذا، تفقد الخطة شرعيتها حتى قبل أن تولد.
لا نزع سلاح... لا انسحاب
في المعادلة السياسية الجديدة، نزع السلاح شرط للانسحاب، والانسحاب شرط للإعمار، ما يعني أن غياب أحدهما يشل الآخر.
إسرائيل، وفق منطقها الأمني، لن تغادر قطاعًا ما زال يحتفظ بقدرة عسكرية، وحماس بدورها لن تتخلى عن سلاحها بينما تبقى قوات الاحتلال في الداخل.
النتيجة: جمود كامل، وحالة “لاحرب ولاسلم”، بينما تترسخ على الأرض خريطة جديدة للسيطرة.
تشير التقارير إلى أن إسرائيل ثبتت نقاط تمركز دائمة وسواتر ترابية في ما يُعرف بـ”الخط الأصفر” الذي يقسم القطاع فعليًا إلى نصفين:
شمال وغرب تحت السيطرة الإسرائيلية.
ووسط وجنوب تحت إدارة حماس المحاصَرة.
تكرّس هذه الحدود الجديدة واقعًا مأساويًا، يذكّر بحدود 1948 أكثر مما يشبه اتفاق سلام.
“غزّة الجديدة”... فكرة مشوهة عن الإعمار
مع تعثر نزع السلاح، عاد الحديث في الأوساط الأميركية والإسرائيلية عن مشروع “غزّة الجديدة”، وهو تصور يقترحه جاريد كوشنر يقضي بإعادة إعمار المناطق الواقعة داخل الخط الأصفر فقط – أي تلك الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية – واستيعاب ما يصل إلى مليون فلسطيني فيها.
لكن هذه الرؤية، التي تفترض أن الغزّيين سينتقلون طوعًا إلى “مناطق مؤمنة” تحت سلطة الجيش الإسرائيلي، تواجه رفضًا قاطعًا من المانحين العرب والخليجيين، الذين يرون فيها إعادة إنتاج لسياسة العزل لا مشروعًا للسلام.
بمعنى آخر، يتحول الحديث عن الإعمار إلى أداة لتكريس التقسيم، لا لتجاوز الحرب.
“الخط الأصفر”... حدود سياسية جديدة
تحوّل الخط الأصفر الذي وُضع مؤقتًا لوقف إطلاق النار إلى حدٍّ سياسي فعلي بين شطرين متقابلين:
غزّة إسرائيلية وغزّة محاصرة.
في الأولى، تُبنى بنى تحتية محدودة بإشراف مباشر من الشركات الأمنية الإسرائيلية، وفي الثانية تتواصل المعاناة الإنسانية بلا أفق سياسي.
وفي الخلفية، يواصل الطرفان إطلاق النار على نحو متقطع، ليذكّرا العالم بأن “وقف الحرب” لا يعني نهايتها.
معادلة الجمود
لن يتحرك هذا الجمود إلا إذا تنازل أحد الطرفين:
إما أن تضغط قطر وتركيا على حماس لتسليم السلاح، أو أن تقنع واشنطن وتل أبيب بالتعايش مجددًا مع وجودها.
لكن كلا الاحتمالين بعيد المنال.
في ظل هذا الواقع، ستستمر المنطقة في إنتاج إجراءات تجميلية جزئية – لجان ومؤتمرات ومشاريع إعمار رمزية – لكنها لن تمس جوهر الصراع.
غزّة: المستقبل المؤجل
اليوم، تعيش غزّة مستقبلها المؤجل، نصفها تحت سلطة الاحتلال ونصفها الآخر تحت سلطة المقاومة.
لا الدولة قائمة، ولا الحرب انتهت، ولا السلام اقترب.
وبين الخطوط الصفراء والحدود الوهمية، يبقى المدنيون وحدهم من يدفع ثمن الخطط الكبرى التي لا تُبنى على الأرض بل على الخرائط.



