من الظل إلى السلطة.. كيف شقّ أحمد الشرع طريقه الدموي حتى رئاسة سوريا؟
من سجون العراق إلى قصر المهاجرين.. مسار سياسي يتقاطع مع إرث طويل من العنف والصراعات المعقدة
في تاريخ الحركات الجهادية في المشرق، قلّة من الشخصيات شغلت المشهد مثل أحمد حسين الشرع، المعروف بـ أبو محمد الجولاني، الذي انتقل من مقاتل شاب في العراق إلى أحد أبرز قادة التنظيمات المتشددة في سوريا، وصولاً إلى مرحلة مثيرة للجدل حين أصبح رأس السلطة في سوريا بعد انهيارات عسكرية وسياسية عاصفة. مسيرته، التي امتدّت على أكثر من عقدين، تعكس شبكة متداخلة من التحولات الفكرية، الصراعات الداخلية، التنافس الإقليمي، والدماء التي سالت على طول الطريق.
رغم محاولات الرجل تقديم نفسه كـ”زعيم محلي” غير مرتبط بالأجندات العابرة للحدود، فإن إرثه الدموي يبقى حاضراً في الذاكرة السورية، خصوصاً لدى العلويين في الساحل والدروز في السويداء الذين لمسوا آثار النزاعات التي كانت الفصائل التابعة له طرفاً فيها.
البدايات.. من الموصل إلى أحضان داعش
ولد أحمد الشرع في عام 1981 في الرياض لعائلة سورية من إدلب. ومع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وجد الشرع طريقه إلى ساحات القتال عبر شبكات التجنيد السورية في ذلك الوقت. في العراق، انضمّ الشاب الهادئ إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، حيث تورّط في عمليات قتالية وتنظيمية.
اعتُقل الجولاني لاحقاً في سجن بوكا الأميركي، الذي تحوّل آنذاك إلى “جامعة” لتلاقي مقاتلي القاعدة وبناء شبكاتهم. هناك، تعرّف على شخصيات ستصبح لاحقاً في مقدمة المشهد الجهادي في سوريا والعراق.
من العراق إلى سوريا.. الولادة العسكرية الجديدة
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، كلّف تنظيم القاعدة الشرع بتأسيس ذراع سورية للتنظيم. ومع بداية 2012، ظهر اسم جبهة النصرة للمرة الأولى.
وبينما حاولت النصرة تقديم نفسها كفصيل “منضبط”، كانت في الواقع امتداداً مباشراً لتنظيم القاعدة. ومع توسعها في دمشق وإدلب وحلب، طُرحت تساؤلات عن دورها في تفتيت صفوف المعارضة المعتدلة واستنزافها.
في 2013، ومع إعلان أبو بكر البغدادي دمج النصرة ضمن ما أصبح لاحقاً تنظيم داعش، رفض الجولاني، معلناً الولاء لأيمن الظواهري. هذا الرفض فجّر واحدة من أكبر الانشقاقات الجهادية، وأدخل الساحة السورية في صراعات داخلية بين الحلفين.
صعود النصرة.. وسقوط المجتمعات في الوسط
مع توسع النصرة، وقعت اشتباكات وعمليات قمع بحق مجموعات معارضة وناشطين مدنيين، وبرزت اتهامات عن حالات قتل وتعذيب واعتقالات تعسفية.
في الساحل السوري، اتُهمت النصرة وفصائل متحالفة معها بتنفيذ هجمات ضد قرى ذات غالبية علوية. وفي السويداء، رغم تغيّر الخطاب المعلن، ظلّت الفصائل القريبة من النصرة طرفاً في اشتباكات وعمليات خطف طالت أبناء الطائفة الدرزية.
هذه الأحداث رسخت صورة الجولاني كطرف عسكري ذي مشروع عقائدي، رغم محاولاته اللاحقة تجميل الصورة.
القطيعة مع القاعدة.. خطوة تكتيكية أم تحول حقيقي؟
في 2016، أعلن الجولاني انفصال جبهة النصرة عن القاعدة وتغيير اسمها إلى فتح الشام، ثم لاحقاً إلى هيئة تحرير الشام. ظهوره لأول مرة بزي عسكري، كاشفاً وجهه، كان لحظة سياسية محسوبة تهدف لمنح فصيله مشروعية محلية.
لكن تقارير متعددة أكدت أن الانفصال كان تكتيكاً سياسياً أكثر منه تحولاً فكرياً. واستمرّت الهيئة في حكم مناطق واسعة في إدلب ومحاربة فصائل معارضة أخرى.
الطريق إلى رئاسة سوريا.. الفجوة التي ملأها الجولاني
مع الانهيارات التي شهدتها سوريا في 2024 و2025، بين انقسام النظام، وانهيار اقتصادي واسع، وتراجع الحضور الروسي، تمكّن الجولاني من تقديم نفسه كزعيم قوي في مرحلة فراغ سياسي.
بدعم معقّد من قوى داخلية وخارجية، وبدفع من واقع عسكري جديد، فرض نفسه كقوة أمر واقع، وصولاً إلى تولّيه رئاسة سوريا في ترتيبات انتقالية قاسية فرضتها الظروف.
رغم تغير الخطاب الإعلامي للجولاني، فإن تقارير حقوقية وسكاناً من الساحل والجنوب تحدثوا عن استمرار الانتهاكات، ومحاولات إخضاع مناطق غير سنية بالقوة، كما حصل في السويداء في الاشتباكات الأخيرة، أو عبر حملات دهم واعتقال في الساحل والمناطق المختلطة.
الجولاني اليوم.. رجل دولة أم قائد فصيل؟
يحاول الجولاني الظهور كرجل دولة، يرتدي بذلة رسمية، يستقبل وفوداً سياسية، ويقدّم نفسه كـ”قائد جديد” لسوريا.
لكن إرثه السابق، من العراق إلى النصرة إلى الهيئة، لا يزال يثقل صورته.
وبينما يعاني السوريون من الانقسامات والانهيار، يبقى السؤال المفتوح:
هل يستطيع من حمل السلاح باسم أيديولوجيا عابرة للحدود أن يقود دولة ممزقة؟ أم أن سوريا دخلت فصلاً آخر من الصراع يرتدي هذه المرة شكلاً سياسياً؟



