ما وراء كلمة "أقليات".. شعوب الشرق الأوسط التي تصنع الحاضر وتحمي إرثها
من الأرمن إلى الأكراد، ومن الدروز إلى الآشوريين والمسيحيين: تاريخ من الصمود والانتهاكات
تقرير خاص – خيبر أونلاين
رغم أن الخطاب السياسي والإعلامي في الشرق الأوسط كثيرًا ما يستخدم مصطلح “الأقليات” للإشارة إلى جماعاتٍ عرقية أو دينية محددة، فإن هذا التوصيف كثيرًا ما يُغفل حقيقة أعمق: هؤلاء ليسوا مجرد أقليات عددية، بل شعوبٌ تمتلك تاريخًا عريقًا، وثقافةً متجذّرة، وإسهاماتٍ بارزة في بناء حضارة المنطقة.
من الأرمن والآشوريين إلى الدروز والأكراد والمسيحيين والعلويين، تحمل هذه الجماعات رواياتٍ متشابكة من الاضطهاد والبقاء، ومن المآسي والنهضة في آنٍ واحد.
الذاكرة المثقلة بالمجازر والانتهاكات
منذ بدايات القرن العشرين، شهدت المنطقة موجاتٍ متكررة من العنف ضد الأقليات.
المجازر التي ارتُكبت بحق الأرمن عام 1915 على يد الدولة العثمانية كانت من أوسع حملات الإبادة المنظمة في التاريخ الحديث، إذ قُتل خلالها نحو مليون ونصف المليون إنسان، وتشتّتت مجتمعاتٌ كاملة في المهاجر.
لاحقًا، تعرّض الآشوريون والمسيحيون في العراق وسوريا لاعتداءات مماثلة، خصوصًا خلال فترات الصراع الطائفي في العقدين الأخيرين.
في سوريا، ما زالت الذاكرة الحديثة تحفظ مشاهد العنف التي استهدفت الأقليات خلال سنوات الحرب.
في صيف عام 2025، شهدت محافظة السويداء هجماتٍ دامية نفذتها مجموعات مسلّحة مرتبطة بهيئة تحرير الشام، أسفرت عن مقتل وخطف مدنيين دروز، ما أثار صدمةً وغضبًا واسعًا في المنطقة.
وفي الشمال السوري، تتكرر الانتهاكات بحق السكان الأكراد من قبل القوات التركية والفصائل الموالية لها، عبر عمليات تهجيرٍ قسريٍّ وتغييرٍ ديمغرافي ممنهج في مدن مثل عفرين وتل أبيض ورأس العين.
الأكراد: من المقاومة إلى بناء المؤسسات
رغم كونهم من أكبر الشعوب غير العربية في المنطقة، لا يزال الأكراد يُوصَفون “أقلية”.
لكن واقعهم السياسي والاجتماعي يُثبت العكس.
في سوريا، يقطن الأكراد مناطق استراتيجية تضم أكبر نهرين (الفرات ودجلة) وأكبر جبلين (الأكراد والعرب)، ويديرون مؤسسات مدنية وعسكرية منظمة تشكّل نواة كيانٍ إداري مستقر في شمال وشرق البلاد.
هم من تصدّروا الحرب ضد تنظيم داعش، ودفعوا ثمناً باهظاً في معارك كوباني والرقة ودير الزور، حين قدّموا نموذجاً لقوةٍ منضبطة وفاعلة في مواجهة الإرهاب.
المسيحيون والعلويون: حراس الثقافة والهوية
لا يمكن الحديث عن هوية الشرق الأوسط دون ذكر المسيحيين الذين أسسوا مدارس ومطابع وجامعات، وأسهموا في النهضة الفكرية العربية منذ القرن التاسع عشر.
من بيروت إلى دمشق وبغداد، لعبت النخب المسيحية دورًا محوريًا في تشكيل الصحافة العربية والأدب الحديث، وكانت جسراً ثقافيًا بين الشرق والغرب.
أما الطائفة العلوية، التي تمتد جذورها الفكرية في التاريخ الإسلامي، فقد تحولت في العقود الأخيرة إلى لاعب سياسي أساسي في سوريا، رغم ما واجهته من تهميشٍ طويل.
وجودها اليوم يعكس تعقيد العلاقة بين الدين والسياسة في المنطقة، ويؤكد أن مفهوم “الأقلية” ليس ثابتًا بل يتبدّل وفق موازين القوى والتحولات التاريخية.
الدروز والأرمن والآشوريون: الهويات التي قاومت النسيان
في الجبل والسويداء، يحافظ الدروز على تراثٍ اجتماعي متماسك، رغم الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة.
يتميّز حضورهم بميلٍ واضح إلى الاستقلالية المحلية، وإلى الحفاظ على توازنٍ دقيق بين الخصوصية الدينية والانتماء الوطني.
أما الأرمن، فتمكّنوا رغم جراح الماضي من بناء مجتمعاتٍ مزدهرة في لبنان وسوريا والأردن، مزجت بين الهوية القومية والاندماج الاجتماعي.
وفي العراق وسوريا، يواصل الآشوريون نضالهم للحفاظ على لغتهم السريانية وتراثهم الكنسي في وجه النزاعات والهجرة القسرية.
من “الأقليات” إلى “شعوب المنطقة”
تكشف قراءةُ واقع هذه الجماعات أن مصطلح “الأقليات” لم يعد دقيقًا، لا عدديًا ولا ثقافيًا.
فالأكراد، وحدهم، يشكّلون ثاني أكبر جماعةٍ عرقية في الشرق الأوسط بعد العرب، ويتجاوز عددهم 30 مليونًا.
أما المسيحيون والدروز والأرمن والآشوريون، فلكلٍّ منهم امتدادٌ فكري وثقافي عابرٌ للحدود.
لقد كانت مساهماتهم في الفنون، والعلوم، والتعليم، والسياسة، حجر أساس في بناء مجتمعاتهم الحديثة.
بمعنى آخر، إنّ الأقليات ليست “أقليات” إلا بالتصنيف الإداري أو السياسي، لكنها في جوهرها رواياتٌ متكاملة من التاريخ والمقاومة والبقاء، تعكس تعددية الشرق الأوسط التي لطالما كانت مصدر قوته لا ضعفه.
خاتمة: الشرق المتعدد هو الشرق الممكن
إنّ ما يجمع هذه الشعوب ليس معاناتها فقط، بل قدرتها على الصمود والبناء رغم كل ما فُرض عليها من حروبٍ وإقصاء.
في زمن الانقسامات، تبدو الحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى إعادة تعريف “الأقليات” كشركاء في صياغة المستقبل، لا كهوامش في التاريخ.
فالشرق الأوسط، الذي وُلدت على أرضه الديانات والحضارات، لن ينهض إلا إذا احتضن تنوّعه لا إذا خاف منه.



