بين المعبرين... السويداء في انتظار الطريق المفتوح
حواجز جديدة ترسم حدودًا خفية بين دمشق وجبل الدروز
لم تعد الرحلة من دمشق إلى السويداء مجرّد طريق سفر عادي. فالطريق الذي لا يتجاوز 100 كيلومتر تحوّل إلى رحلة طويلة عبر عشرات الحواجز والمعابر الأمنية، كأنما صار عبور الجبل اليوم مرورًا على خط تماس غير معلن بين سلطتين تتنازعان الجغرافيا والنفوذ.
منذ أحداث تموز الماضي، التي اجتاحت فيها قوات “السلطة الانتقالية” ريف السويداء الغربي وارتكبت مجازر بحق المدنيين، تغيّر وجه الطريق كليًا. فالمسافة التي كانت تستغرق ساعتين أصبحت اليوم أكثر من أربع ساعات من التفتيش والاستجواب والانتظار.
معبران... لكن بلونين مختلفين
على الطريق الجديد بين المحافظتين، يظهر معبران رئيسيان:
معبر المتونة، الذي تسيطر عليه قوات الأمن العام التابعة للسلطة، ويعدّ نقطة تفتيش رئيسية تُحتجز عندها الأسماء المدرجة على “قوائم المطلوبين”.
معبر أم الزيتون، بإدارة الحرس الوطني في السويداء، لا يُسمح بعبوره إلا بتصريح مسبق من غرفة العمليات، وغالبًا لأسباب طبية أو إنسانية محددة.
ورغم أن الطرفين يصفان الموقعين بـ”المعبرين”، إلا أن الأهالي يرون في هذه التسمية إشارة رمزية إلى حدود داخلية جديدة، تفصل بين السويداء ودمشق، وتحوّل المحافظة إلى كيانٍ معزول إداريًا وأمنيًا خارج الإيقاع السوري العام.
يقول أحد الأهالي:
“صرنا نشعر أننا نغادر بلدًا وندخل آخر، رغم أن الطريق واحد والعلم واحد.”
وجوه معلّقة على الحواجز
الطريق ليس فقط معبرًا للأجساد، بل معبر للذاكرة والخوف.
أحاديث المسافرين على الحافلات لا تخلو من قصص الخطف، ومن استذكار حادثة الهجوم على حافلة الركاب قرب كازية مرجانة قبل أسابيع، التي أدت إلى مقتل الشابة آية سلام والشاب كمال عبد الباقي، في منطقة تقع بين حواجز الأمن العام.
لم يكن الاستهداف صدفة، بل نتيجة بيئة أمنية مرتبكة أصبحت فيها حياة المدنيين رهينة الفوضى والسلاح.
الناجون من الحادثة رووا كيف أوقف المسلحون الحافلة وسألوا عن هوية الركاب قبل أن يفتحوا النار، في مشهدٍ يلخّص هشاشة الطريق بين الجبل والعاصمة.
السويداء بعد تموز: محافظة بذاكرة مفتوحة على الجراح
بعد أكثر من ثلاثة أشهر على اجتياح تموز، لا تزال قرى اللواء (اللوا) تعاني التهجير والدمار، فيما يعيش مئات الأهالي في المدارس والمراكز المؤقتة.
تقول التقارير الميدانية إن السلطة الانتقالية ما زالت تسيطر على القرى الغربية، مانعة عودة السكان إليها بحجة “التسوية الأمنية”، بينما يواصل الحرس الوطني تنظيم المساعدات وتسيير العبور عبر أم الزيتون بشكل محدود.
في الأسواق، يشكو الناس من نقص الدقيق وغلاء المحروقات، ومن عزلةٍ اقتصادية تتزايد يومًا بعد يوم.
الشتاء على الأبواب، والجبال باردة، والناس ينتظرون ما يشبه المعجزة.
الشيخ الهجري: بين الإيمان والقلق
خلال زيارة للسويداء، التُقي الرئيس الروحي للطائفة الدرزية الشيخ حكمت الهجري، الذي بدا متعبًا لكنه متماسكًا.
رفض إجراء مقابلة مسجلة، مفضّلًا الحديث عن هموم الناس أكثر من السياسة، وقال إن “السويداء اليوم ليست مجرد قضية محلية، بل ملف بيد قوى دولية وإقليمية”.
الهجري، الذي قاد الحراك السلمي ضد سلطة دمشق، عبّر عن استغرابه من “مؤتمر السلام” المزمع عقده في أكتوبر، مشيرًا إلى أن السلام الحقيقي يبدأ من احترام كرامة الناس داخل الجبل، لا من بيانات الفنادق.
الطريق كمجاز
الطريق إلى السويداء بات مجازًا لحال سوريا نفسها: بلدٌ تتقطّع فيه الجغرافيا بالمعابر والحواجز، وينكمش فيه الوطن إلى مناطق انتظار.
كل معبرٍ هنا يشبه سؤالًا مؤجّلًا عن المستقبل:
هل سيبقى الجبل معزولًا خلف نقاط التفتيش، أم سيُفتح الطريق ذات يومٍ على دولةٍ لا تخاف من أبنائها؟
حتى ذلك اليوم، يظل الطريق بين دمشق والسويداء أطول من المسافة، وأقصر من الأمل.



