صراع الهوية: لماذا يخشى الإسلاميون الفراعنة؟
من تماثيل الكرنك إلى بوذا باميان... معركة طويلة بين الذاكرة والآيديولوجيا
حين فتحت القاهرة أبواب المتحف المصري الكبير أمام العالم قبل يومين، لم يكن المشهد احتفالًا بالسياحة أو التراث فقط، بل إعلانًا رمزيًا عن عودة مصر إلى هويتها العميقة التي سبقت الانقسامات والاصطفافات الحديثة.
لكن هذا الاحتفال بالذاكرة لم يمر دون معركة أيديولوجية جديدة. فكما في كل مرة تحتفي فيها مصر بتاريخها القديم، خرجت أصوات إسلامية متشددة تحذّر من “تمجيد الكفار” و”تعظيم الجاهلية”، وكأن الاحتفاء بالحضارة تهديد للدين.
الذاكرة التي يخافون منها
بالنسبة للمؤسسة الدينية الرسمية في مصر، لم يكن افتتاح المتحف “انحرافًا عن العقيدة”، بل “فخرًا بتاريخ حضاري عظيم لا يتعارض مع الإيمان”.
شيخ الأزهر أحمد الطيب أكد أن “احترام التاريخ لا يعني عبادته”، فيما ذكّر علماء الأزهر بأن عمرو بن العاص عندما دخل مصر لم يهدم المعابد، بل تركها لأنها ذاكرة لا معبودات.
لكن ما ترفضه المؤسسات المتشددة هو تعدد الهويات. بالنسبة لمدارس الإسلام السياسي، لا وجود لتاريخ ما قبل الإسلام إلا بوصفه “جاهلية”، ولا مكان له في بناء الوعي الجمعي الحديث.
يقول الباحث سامح عيد إن جماعة الإخوان “تعتبر أن تاريخ مصر يبدأ مع الإسلام، وما قبله هو مجرد حضارات وثنية”، ولذلك يُفهم الاحتفاء بالفرعونية كـ”محاولة لمحو الهوية الإسلامية”، في رأيهم.
من الكرنك إلى باميان
الرفض الإسلامي للتراث الإنساني ليس مصريًا فقط.
في أفغانستان عام 2001، فجّرت حركة طالبان تماثيل بوذا في باميان تحت شعار “هدم الأصنام”.
في العراق وسوريا، دمّر تنظيم داعش آثار الموصل وتدمر.
وفي مصر بعد 2011، صدرت دعوات لتغطية التماثيل أو هدمها، لكنها لم تتحول إلى سياسة منهجية.
القيادي الإخواني السابق طارق البشبيشي يروي أنه خلال زيارة إلى معبد الكرنك سمع هتافًا من شباب الجماعة يقول: “إسلامية لا فرعونية”.
يعلّق: “لقد تربينا على كراهية كل ما يرمز للتاريخ المصري القديم، كأن الماضي خطر يجب محوه”.
التاريخ كتهديد سياسي
يرى الباحث في الإسلام السياسي طارق أبو السعد أن الصراع ليس دينيًا بقدر ما هو صراع على تعريف الهوية.
يقول: “كل رمز وطني جامع يهدد مشروع الإسلاميين. لأن مشروعهم يقوم على تفكيك الهوية الجامعة واستبدالها بهوية أيديولوجية ضيقة.”
الفرعونية هنا لا تُهدّد الإسلام، بل تهدّد امتلاكهم للرواية. فالتاريخ الممتد لآلاف السنين يذكّر المصريين بأنهم أقدم من أي حزب أو جماعة، وأن الهوية المصرية نتاج تفاعل حضاري طويل لا يمكن محوه بشعار سياسي.
تحليل خيبر أونلاين
الخلاف حول “الفراعنة” ليس حول الدين، بل حول الذاكرة والسيطرة عليها.
فبينما تنظر الحركات الإسلامية إلى التاريخ القديم كخطر رمزي يهدد رؤيتها للعالم، ترى الدولة والمجتمع أن هذا التاريخ هو جذر الشرعية الثقافية والسياسية لمصر الحديثة.
المتحف المصري الكبير لم يفتح فقط بواباته للزوار، بل فتح من جديد ملف الهوية المصرية: من يرويها؟ من يحتكرها؟ ومن يخاف منها؟
خلاصة
الإسلاميون لا يخشون التماثيل، بل ما ترمز إليه - ذاكرة لا يستطيعون احتكارها.
وفي كل مرة يُضاء فيها وجه فرعوني في القاهرة، تُطفأ رواية أيديولوجية كانت تحاول أن تقول إن التاريخ بدأ منذ قرن واحد فقط.



