رؤية أميركية جديدة لإدارة الشرق الأوسط: تحوّل استراتيجي أم إعادة تموضع؟
ملامح السياسة الخارجية لإدارة ترامب الثانية كما تنعكس على صراعات المنطقة وتوازناتها
مع إصدار البيت الأبيض لاستراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بدا واضحاً أنّ واشنطن تتجه نحو مقاربة مختلفة للشرق الأوسط، مقاربة تقلّل من إرث نصف قرن من الانخراط العميق وتعيد ترتيب الأولويات بما يتناسب مع التحولات السياسية والطاقوية والجيوسياسية.
الوثيقة المؤلفة من 33 صفحة تخصّص حيّزاً مهماً للشرق الأوسط، وتضع خارطة طريق لعلاقة واشنطن المستقبلية مع دول المنطقة، في لحظة تتقاطع فيها الحروب الإقليمية مع التنافس الدولي والسباق التكنولوجي والاستثماري.
تحوّل في سلّم الأولويات الأميركية
تؤكد الاستراتيجية الأميركية أن الشرق الأوسط لم يعد يحتل موقعه التقليدي في رأس سلّم الاهتمامات، بعدما تغيّرت عوامل القوة التي دفعته إلى موقعه السابق. فالتنوع الطاقوي الأميركي وانحسار دور الشرق الأوسط كمنصة حصرية لإمدادات النفط، إضافة إلى تغيّر طبيعة المنافسة الدولية، جعلت واشنطن أقل ارتباطاً بالحاجات التي حكمت علاقاتها مع دول المنطقة منذ السبعينيات.
وترى الاستراتيجية أن تحالفات ترامب مع دول الخليج وإسرائيل منحت الولايات المتحدة هامشاً أكبر للتحرك من دون الحاجة إلى الانغماس العسكري أو السياسي كما جرى في العقود الماضية.
إدارة الصراعات بدلاً من الانخراط المباشر
تضع الوثيقة إيران في مقدمة التهديدات، مؤكدة أنّ قدراتها العسكرية والاستراتيجية تراجعت بفعل الضربات الإسرائيلية منذ حرب 2023، ثم عملية “مطرقة منتصف الليل” التي نفذتها واشنطن في يونيو 2025 وألحقت ضرراً كبيراً ببرنامج طهران النووي.
كما ترى الإدارة أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دخل مرحلة مختلفة بعد صفقة وقف إطلاق النار، وأنّ سوريا تقف أمام فرصة لإعادة تموضع بدعم عربي وأميركي وإسرائيلي وتركي، بما يجعلها أكثر قابلية للاندماج في المشهد الإقليمي الجديد.
تركز الاستراتيجية أيضاً على مواجهة الإرهاب وأيديولوجياته، مع رفض العودة إلى حروب “بناء الدول” التي ميّزت العقدين الماضيين.
شراكات اقتصادية وتكنولوجية بدل التدخلات العسكرية
تؤكد الاستراتيجية أن مستقبل العلاقة الأميركية مع المنطقة سيعتمد على التكنولوجيا والاقتصاد لا على الطاقة وحدها. وتشير إلى أن الخليج بات مسرحاً رئيسياً لتوسّع النفوذ الأميركي في مجالات الذكاء الاصطناعي، الطاقة النووية، الصناعات الدفاعية، وسلاسل التوريد العالمية.
وترى واشنطن أن شركاء المنطقة قادرون على لعب دور أكبر في أفريقيا، وأن تعزيز الأسواق المفتوحة هو أحد المفاتيح لدفع النمو العالمي.
قبول الأنظمة كما هي وليس فرض نماذج خارجية
تنتقد الوثيقة إرث الإدارات الأميركية السابقة التي حاولت “تغيير الأنظمة” أو الضغط من أجل تغيير بنية الحكم التقليدية، مؤكدة أن نهج ترامب يقوم على قبول الشرق الأوسط بطبقاته السياسية والاجتماعية والدينية كما هي.
وترى الاستراتيجية أنّ الإصلاحات يجب أن تكون “محلية المنشأ”، وأن دور واشنطن هو التشجيع لا الفرض.
كما تُعطي الوثيقة مكانة مركزية لتوسيع اتفاقيات إبراهيم لتشمل دولاً إضافية في المنطقة والعالم الإسلامي.
مصالح أميركا الأساسية التي لا تتغيّر
رغم تحولات الاستراتيجية، تبقى ثوابت واشنطن واضحة:
ضمان عدم وقوع الطاقة الخليجية بيد خصومها.
الحفاظ على حرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر.
منع تحول المنطقة إلى منصة لتهديد الأمن الأميركي.
حماية أمن إسرائيل بوصفه مصلحة استراتيجية ثابتة.
وتشير الوثيقة إلى أن نجاح ترامب في جمع القادة العرب في قمة شرم الشيخ الأخيرة أعطى واشنطن فرصة لإعادة تعريف مصالحها بعيداً عن “الابتزاز الجيوسياسي” للصراعات القديمة.
خلاصة خيبر أونلاين
ترسم الاستراتيجية الأميركية الجديدة ملامح مرحلة انتقالية في العلاقة بين واشنطن والشرق الأوسط، مرحلة تتراجع فيها الأعباء العسكرية المباشرة لصالح النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي، وتستند إلى شراكات سياسية مع أنظمة المنطقة بدلاً من السعي إلى تغييرها.
لكن هذه المقاربة الجديدة، رغم وضوحها على الورق، ستخضع لاختبار عملي مع كل تطور أمني أو صراع جديد، في منطقة لا تزال أبعد ما تكون عن الاستقرار.



