تقرير خاص | الصين تتحدث بالعربية
القوة الناعمة في الشرق الأوسط.. كيف تبني بكين نفوذها بهدوء؟
تقرير خاص – خيبر أونلاين
بينما تنشغل العواصم الغربية بترميم حضورها العسكري والسياسي في الشرق الأوسط، تمضي الصين بخطى ثابتة على طريقٍ آخر: طريق الكلمات، والرموز، والثقافة.
فمن الرياض إلى الرباط، ومن القاهرة إلى أبوظبي، تمدّ بكين خيوطاً من اللغة والاقتصاد والإعلام، تبني بها شبكة نفوذٍ أكثر ديمومة من القواعد والأساطيل.
هذه ليست الصين الصاخبة في مصانعها أو المتوترة في مضيق تايوان؛ بل الصين الصامتة الناعمة التي تعيد تعريف معنى القوة في المنطقة.
من «الحزام والطريق» إلى «العقل والقلب»
تقول بكين إنها لا تريد الهيمنة بل “التنمية المشتركة”.
لكن خلف هذا الخطاب الهادئ، تكمن استراتيجية مركّبة توظف التجارة، والتعليم، والإعلام في بناء صورة جديدة للصين كـ”شريكٍ حضاري”، لا كقوةٍ منافسة.
المعاهد الثقافية الصينية — من كونفوشيوس في القاهرة إلى المركز الثقافي الجديد في الكويت — أصبحت منابر دبلوماسية ناعمة تُدرّس اللغة وتزرع الودّ وتعيد سرد التاريخ من منظور آسيوي.
وفي الوقت نفسه، تعمل قنوات مثل CGTN Arabic على بثّ روايةٍ إعلامية متوازنة ظاهرياً، لكنها محمّلة برسائل استراتيجية: أن العالم متعدد الأقطاب، وأن “الاستعمار الثقافي الغربي” قد انتهى زمنه.
كل ذلك يشكّل جزءاً من “مشروع الصين الكبرى” الذي لم يعد يعتمد فقط على الطرق التجارية، بل على الطرق الرمزية التي تمر عبر الوعي العربي.
الإعلام.. الواجهة الهادئة للنفوذ
في زمنٍ أصبحت فيه الصورة سلاحاً، اختارت بكين أن تقاتل بالكاميرا لا بالصاروخ.
فمن خلال شبكاتها الإعلامية وشراكاتها مع وسائل عربية، تبني الصين سردية جديدة عن التنمية والاحترام المتبادل، تضع نفسها فيها بديلاً “حضارياً” عن الغرب المتعب بالوصاية.
قنواتها تبثّ بالأربع لغات، وتنتج محتوى محليًا بلمسةٍ آسيوية هادئة، تروّج لـفكرة العالم المتوازن الذي لا مكان فيه لهيمنةٍ واحدة.
حتى الذكاء الاصطناعي دخل اللعبة: روبوتات إخبارية صينية تتحدث بالعربية، تكتب وتنشر وتعلّق، بلا عواطف، بلا أيديولوجيا — فقط بمنطق الانسياب الصامت.
التعليم والثقافة: طريق بكين إلى الذاكرة
منح دراسية، معارض فنية، ومبادلات طلابية.
الصين تعرف أن من يُدرّس لغته، يزرع فكرته.
لهذا، تضاعف عدد الطلاب العرب في الجامعات الصينية في العقد الأخير، بينما ارتفع عدد معاهد كونفوشيوس في الشرق الأوسط إلى مستويات غير مسبوقة.
لكن المسألة ليست لغوية فقط، بل ثقافية – نفسية:
أن يرى العربي في الصين نموذجاً للتنمية بلا شروط، وللنظام بلا استبداد ظاهر، وللحداثة بلا صراع مع الدين أو الهوية.
ما الذي تريده بكين؟
لا تخفي الصين أهدافها:
الاستقرار لحماية خطوط الطاقة.
الوصول إلى الأسواق والبنية التحتية.
النفوذ الذي يسمح لها بالتأثير على شكل النظام الدولي القادم.
لكن المختلف في مشروعها أنه ينتقل من الجغرافيا إلى الوعي — من الموانئ والأنابيب إلى الشاشات والصفوف الدراسية، ومن التجارة إلى الخطاب.
إنها تريد أن تكون حاضرة في الذاكرة قبل أن تكون في السياسة.
قراءة خيبر أونلاين: الشرق الأوسط في زمن “كونفوشيوس”
القوة الناعمة الصينية ليست حدثاً عابراً، بل تحوّل استراتيجي طويل الأمد.
ففي الوقت الذي تستنزف فيه واشنطن طاقتها في ملفات غزة وإيران واليمن، تتحرك بكين في المساحات التي تتركها الفوضى.
إنها تلعب لعبة القرن الواحد والعشرين بهدوءٍ آسيويٍ مدروس:
تكسب العقول بالمنح الدراسية، والقلوب بالاحترام، والأسواق بالاستثمار، والإعلام بالسرديات.
وما إن تترسّخ هذه العناصر معاً، حتى تصبح القوة الناعمة أكثر ثباتاً من أي تحالفٍ عسكري.
وهكذا، بينما تتغير موازين القوة من واشنطن إلى بكين، يبدو أن الشرق الأوسط يفتح فصلاً جديداً من تاريخه — فصلاً لا يُكتب بالنفط ولا بالسلاح، بل بالرموز والثقافة واللغة.


