مظاهرات أوروبا مناصِرة لغزة — انتقائية أم إنسانية مُختارة؟
مظاهرات واسعة لأجل فلسطين… وأزمات أخرى في الشرق لم تُشعل الشارع الغربي
تقرير خاص — خيبر أونلاين
المشهد الأوروبي الراهن، حيث تتجمّع مئات الآلاف في شوارع لندن وباريس وروما وبرلين مطالبين بوقف النار وإنقاذ المدنيين في غزة، يعطي انطباعاً واحداً: غيظ عالمي أخيراً تجاه معاناة الفلسطينيين. لكن هذا الموقف الشعبي الواسع يتناقض مع حقيقة مُرّة: خلال العقدين الأخيرين شهدت المنطقة العربية موجات من العنف والمجازر التي أودت بعشرات ومئات الآلاف — أحيانًا ملايين — من البشر، ولم تُحدث كلها ردة الفعل الجماهيرية أو السياسية نفسها في الغرب. هذا التقرير يضع وقائع الأرقام والوقائع جنبًا إلى جنب مع قراءة نقدية لِما يُسمى «الضمير الغربي الانتقائي».
1) أرقامٌ لا تُنكَر — مجازر ونزاعات كبرى في العقدين الأخيرين (تقديرات مرجعية)
ملاحظة مهمة: كل رقم هنا تقريبي ويعكس أفضل تقدير متاح من مصادر مراقبة النزاعات وحقوق الإنسان. كثير من الأرقام تختلف تبعاً للمصدر وطريقة العدّ (مباشر/مباشر+غير مباشر).
سوريا (2011–2025)
تقديرات متباينة لكنها كبيرة: مراقبون وأبحاث تُقدّر إجمالي القتلى مئات الآلاف — بين ~580,000 و656,000 ضحايا حسب مراجعاتٍ مختلفة حتى 2025؛ الأمم المتحدة سجلت عشرات الآلاف من الحالات الموثقة كحد أدنى. هذه الحرب تسبّبت أيضًا بتهجير الملايين وتدمير هائل.العراق (من 2003 إلى الآن)
بعد الغزو الأميركي 2003 ومرحلة العنف الطائفي وصعود داعش، تسجّل قواعد بيانات موثوقة (Iraq Body Count وغيرها) مئات الآلاف من الضحايا المدنيين وقدّر بعضها إجمالي الوفيّات العنفية (مدنيين ومقاتلين) بمئات الآلاف. التقديرات الرسمية الموثّقة لضحايا العنف المدني تقع ضمن نطاق عشرات إلى مئات الآلاف.اليمن (2014/2015–حتى الآن)
الحرب اليمنية تسبّبت بمأساة إنسانية كبرى: قواعد بيانات النزاع والبحوث الميدانية (مثلاً بيانات ACLED ومراجع صحية) وثّقت عشرات الآلاف من الوفيات المباشرة، والتقديرات للوفيّات المباشرة وغير المباشرة (الجوع والمرض) تصل إلى أرقام أكبر بكثير (عشرات إلى مئات الآلاف حسب منهجية العدّ). بيانات ACLED أبلغت عن عشرات الآلاف من القتلى في فترات المراقبة.السودان (دارفور منذ 2003؛ والأزمة الشاملة منذ 2023)
دارفور قبل 2020 سجّلت موجات إبادة وجرائم حرب — تقديرات واسعة متضاربة ولكن الأمم المتحدة ومجموعات حقوقية وثّقت مئات آلاف الضحايا والمهجّرين على مدى سنوات الصراع. الحرب الأهلية الأحدث منذ 2023 (الجيش vs RSF) أدت إلى مآسٍ إنسانية ضخمة، مع ملايين نزوح وآلاف القتلى (ومخاوف من مجازر إثنية)، كما توثّق دراسات أحدث حول معدل الوفيات والحالات الناجمة عن الجوع والمرض.ليبيا (2011–2025)
بعد 2011 وانهيار مؤسسات الدولة، شهدت البلاد سنوات عنف ومواجهات أهلية أدّت إلى عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والنازحين بين فترات متقطعة من القتال وعمليات عسكرية محلية وإقليمية.فلسطين / غزة
الحروب المتكررة وأحداث 2023–2025 خصوصاً خلّفت أرقامًا مرتفعة من الضحايا بين المدنيين في غزة، وأثارت موجة عالمية كبيرة من التغطية واحتجاجات الشارع. (أرقام ضحايا غزة تختلف حسب الفترات والإحصاءات الرسمية والمحلية.)
الخلاصة العددية: على مدى 20 سنة، يمكن جمعاً القول إن المنطقة دُفِعت لخسائر بشرية هائلة — مئات الآلاف إلى ملايين في بعض التقديرات الشاملة التي تحسب الوفيّات المباشرة وغير المباشرة — لكن اللافت هو أن بعض هذه الكوارث حظيت بتغطية واحتجاج شعبي غربي واسع (غزة)، في حين أن أخرى (السودان، دارفور، فترات العنف في العراق أو اليمن) لم تحفز نفس الزخم الجماهيري الغربي العام.
2) مظاهرات أوروبا: قوة حراكٍ واضح لصالح غزة — أرقام ومقارنة
الاحتجاجات المؤيدة لغزة في عواصم أوروبا شهدت مئات الآلاف في تجمعات متكررة؛ تقارير متعددة تتحدّث عن أعداد كبيرة في مدن كبرى وعشرات الآلاف في أخرى، كما وثّقت قواعد بيانات الاحتجاجات العالمية تزايدًا هائلاً في الفعاليات ذات الصلة.
بالمقابل، تحرّكات مماثلة الحجم حول أزمات مثل السودان (أزمة 2023–2025) أو الدراما الإنسانية في اليمن كانت أقل حجماً وانتشاراً في شوارع أوروبا، رغم جهود منظمات إنسانية ومجموعات تضامن محلية — ما يرفع سؤال: لماذا هذا التفاوت في الزخم الشعبي؟
3) لماذا الاختلاف؟ قراءة نقدية مركّزة
أناقش هنا الأسباب الرئيسة التي تفسّر الانتقائية في استجابة الشارع الغربي والسياسات الغربية — مع نقد حازم لأساليب التعامل:
أ. رؤية إعلامية وبصريّة القضية
تغطية الإعلام الغربي (قنوات، صحف، شبكات تواصل) تصنع القضيّة: صور الدمار الواسع، الضحايا المدنيين، الصحفيون المقتولون، والمشاهدة المباشرة (أحيانًا بالتقارير المباشرة من مكان الحدث) تُولّد موجة عاطفية أسرع. بقضايا أقل وصولًا بصريًا (مثل مجازر في مناطق مغلقة أو مدن محاصرة في أفريقيا) لا تصل الصورة للغرب بنفس قوة الضغط العاطفي. لذا: المرئية تصنع التضامن.
ب. وجود جاليات فعّالة وضاغطة
في أوروبا وجود جاليات فلسطينية وعربية نشطة، بالإضافة إلى حركات طلابية وشبابية، ساهم في تعبئة فعّالة. بالمقابل، بعض الأزمات (مثل السودان أو دارفور) تملك جاليات أصغر أو تفتقر إلى بنية تنظيمية تضغط في الشارع بنفس الفعالية.
ج. الحداثة السياسية والمصالح الجيوسياسية
الغرب يتعامل بالمصلحة: تحرّك شعبي قد يتضافر أو يتصادم مع مصلحة حكوماته. عندما تتعارض أعمال الضغط مع مصالح جيوسياسية أو تحالفات (اقتصادية/استراتيجية)، يتباطأ التحرك الرسمي بالرغم من الاحتجاجات. هذا التبرير لا يبرّر الصمت الأخلاقي لكنه يفسّر تفاوت الاستجابة السياسية.
د. التحيّز المؤسساتي والانتقائية الأخلاقية
منظمات حقوقية وصحفية انتقدت مرارًا ما أسمته «اختيارات معيارية» في تغطية الخسائر الإنسانية (أي تغطية مُركزة على طرف دون آخر أو تجاهل أزمات أفريقية وآسيوية) — وهذا ما أسهم في شعور شعوب الجنوب بأن الغرب يقيّم الأرواح بميزان انتقائي. تقارير مؤسسات حقوقية حذّرت من أن «الانتباه غير المتكافئ» قد ينزع الإنسانية من قضايا معينة ويمنحها لقضايا أخرى.
هـ. أبعاد عنصرية / ثقافية تثار في النقاش العام
بعض المحللين والأصوات الإعلامية تطرّقت إلى أن جزءًا من الانتقائية قد يحمل أبعادًا ثقافية أو عنصرية ضمناً — أي أن مآسي بعض الشعوب «أقِلّ أهمية» في سلم أولوية وسائل الإعلام والجمهور الغربي. هذا اتهام خطير ويحتاج إلى أدلة مفهومة؛ لكن وجود تحليلات وأبحاث تشير إلى «فجوة تعاطف» بين مناطق العالم ليس إنكارًا لمبدأ وجود عامل ثقافي/عنصري/جيوسياسي في كيفية توزيع الاهتمام. (مقالات نقدية وتحليلات رأي تناولت هذا الموضوع أخيراً).
4) نقدٌ مباشر ومطالب واضحة للغرب (صيغة حازمة)
المعيار الأخلاقي لا يمكن أن يكون انتقائياً — إذا كان الإدانة اخلاقية، فلتكن دائمة ومستقلة عن التحالفات السياسية. التراكم: الإدانات المتأخرة أو البيانات الخجولة لا تكفي أمام مجازر تُرتكب. (نقد توثّقه منظمات حقوقية).
الضغط الإعلامي الموجه: على وسائل الإعلام الكبرى مراجعة سياساتها التحريرية: لماذا تُعطى كل هذه المساحات لقضية وتجاهل أخرى؟ على الصحافة أن تُوزع التغطية بحسب حجم الإنسانية المتألمة لا بحسب «قابلية الربح» أو الحسابات الدبلوماسية.
المؤسسات الدولية تحتاج لآليات استجابة أسرع: لا تبرير لتراخي الاستجابة الإنسانية عندما تتوافر دلائل على جرائم واسعة أو خطر مجاعة؛ الدعوات إلى ممرات إنسانية، حماية المدنيين، ونشر بعثات تقصي حقائق يجب ألا تُقاس بالمصالح.
المجتمع المدني الغربي أمام مسؤولية: حركات الاحتجاج نجحت في إشعال ملف غزة؛ عليها أن تحوّل هذا الزخم إلى قواعد ضغط مستمرة لِقضايا إنسانية أخرى: السودان، اليمن، دارفور، وهذا يتطلّب بناء شبكات تضامن أوسع ورصد مستمر.
5) خاتمة: انتقائية الغضب ليست براءةً أخلاقية
الحقائق العملية صارخة: المنطقة فقدت خلال العشرين سنة الماضية أعداداً هائلة من البشر نتيجة حروب ومصادمات ومجاعة. أن يثور الغرب اليوم من أجل غزة فهذا عمل إنساني محمود — لكن لا يجوز أن يُصبح ذريعة للاسترخاء الأخلاقي تجاه بقية المعانين. الانتقائية تُضعف حقوق الإنسان، وتمنح مرتكبي الانتهاكات متسعًا من الإفلات من العقاب.
الدرس: التضامن العالمي هو اختبار نضج إنساني، وليس مجرد بيان عاطفي مؤقت. أوروبا والغرب مدعوان — شعوبًا وحكوماتٍ وإعلامًا — لأن يطبّقوا هذا المعيار باستمرار، لا انتخابياً.
مصادر أساسية (نماذج للرجوع)
تقديرات ضحايا الحرب السورية ومراجعات متعددة. Wikipedia
قاعدة Iraq Body Count لتوثيق الضحايا في العراق. iraqbodycount.org+1
بيانات ACLED وتقارير عن وفيّات الحرب في اليمن. ACLED+1
دراسات وتحليلات حديثة عن وفيّات الحرب في السودان (دارفور وما بعدها). sciencedirect.com+1
إحصاء وتوثيق المظاهرات والاحتجاجات العالمية حول غزة (تقارير ACLED وغيرها). ACLED+1
مقالات وتحليلات نقدية حول «الاختيارية» أو «الانحياز في التغطية الإعلامية» وسياسات التضامن. Al Jazeera Institute+1



