لماذا تتباطأ القاهرة في الانفتاح على دمشق؟
حسابات الأمن القومي، خلفيات السلطة الجديدة، وتوازنات الإقليم
لا تزال مصر تتعامل مع ما يُعرف بـ«سوريا الجديدة» بدرجة عالية من الترقب والحذر، رغم تأكيدها المتكرر دعم الدولة السورية والوقوف إلى جانب وحدة أراضيها وخيارات شعبها. هذا التباطؤ لا يعكس قطيعة، بقدر ما يعبّر عن سياسة محسوبة تقوم على إدارة العلاقة دون اندفاع، في مرحلة إقليمية شديدة التعقيد.
حذر منذ اللحظة الأولى
منذ تحرك أحمد الشرع وأنصاره نحو دمشق في ديسمبر 2024، أوضحت القاهرة أن مقاربتها تجاه السلطة الجديدة تقوم على حسابات دقيقة تتصل بالأمن القومي المصري، إلى جانب مخاوف مرتبطة بخلفيات سياسية وأيديولوجية ترى فيها قدراً من عدم الاستقرار. هذا الموقف المبكر رسم الإطار العام للعلاقة، ومنع أي انتقال سريع نحو شراكة سياسية كاملة.
لقاءات بلا اختراق سياسي
ورغم اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالرئيس السوري أحمد الشرع في القاهرة، على هامش القمة العربية الاستثنائية في مارس الماضي، لم ينعكس ذلك على شكل تحول نوعي في العلاقات الثنائية. اللقاء فُهم في حينه كإشارة انفتاح محتملة، لكنه بقي ضمن حدود التواصل البروتوكولي، دون أن يفتح الباب أمام تفاهمات استراتيجية.
دمشق تقيم علاقاتها بميزان مختلف
في تصريحات أدلى بها الأسبوع الماضي، وصف أحمد الشرع علاقات بلاده مع مصر والعراق بأنها «مقبولة»، مقابل وصفه العلاقات مع تركيا والسعودية وقطر والإمارات بأنها «مثالية». هذا التوصيف لم يمرّ دون ملاحظة في القاهرة، واعتُبر مؤشراً إضافياً على اختلاف أولويات دمشق الإقليمية في المرحلة الراهنة.
الأمن القومي أولاً
السفير المصري السابق محمد حجازي يرى أن العلاقة المصرية - السورية يجب أن تُدار بمنهج متدرج، يوازن بين الانفتاح والحذر، ويرتكز إلى اعتبارات الأمن القومي، واستقرار مؤسسات الدولة السورية، وقدرتها على رعاية جميع مكوناتها، بعيداً عن منطق القطيعة أو التطبيع السريع. من هذا المنظور، لا ترى القاهرة أن الظروف نضجت بعد للانتقال إلى مستوى أعلى من التنسيق.
حساسيات رمزية وتراكم شكوك
زاد من حدة التحفظ المصري الجدل الذي أثارته قرارات داخلية في دمشق، أبرزها إلغاء عطلة حرب أكتوبر، وهي الحرب التي خاضتها مصر وسوريا معاً عام 1973. القرار فُسّر في أوساط مصرية واسعة على أنه تجاهل لرمزية تاريخية مشتركة، وأسهم في تعميق الشعور بأن السلطة الجديدة في دمشق لا تولي هذه الرموز الأهمية ذاتها.
تواصل قائم… دون شراكة
على المستوى العملي، تؤكد القاهرة أن قنوات التواصل مع دمشق مفتوحة، وأن موقفها الداعم لوحدة سوريا ورافض تفكيك الدولة ظل ثابتاً منذ اندلاع الأزمة. غير أن هذا التواصل لم يصل إلى مستوى الشراكة السياسية أو التنسيق الاستراتيجي، وهو ما تبرره مصر باستمرار التعقيدات الأمنية داخل سوريا وتشابك علاقاتها مع قوى إقليمية ودولية متعددة.
تأخر التواصل الرسمي
كانت مصر من آخر الدول العربية التي أجرت اتصالاً رسمياً مع الإدارة السورية الجديدة، حين تحدث وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي مع نظيره السوري أسعد الشيباني في 31 ديسمبر 2024. القاهرة شددت حينها على أولوية الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، وعلى ضرورة أن تكون المرحلة الانتقالية شاملة وبملكية وطنية سورية، بعيداً عن التدخلات الخارجية.
ملفات أكبر من الدور المصري
الكاتب الصحفي السوري عبد الله الحمد يرى أن الحذر المصري مفهوم في ظل وصول سلطة ذات خلفيات إسلامية سياسية، إضافة إلى تشابك الملفات السورية مع قوى مثل إسرائيل وإيران، والغارات الإسرائيلية المتكررة. كما يشير إلى أن انفتاح دمشق الحالي يتركز على الفاعلين الدوليين القادرين على رفع العقوبات، وهي ملفات لا تمتلك القاهرة دوراً حاسماً فيها حالياً.
مخاوف مستمرة وتوقعات هادئة
بحسب السفير محمد حجازي، لا تزال عوائق عدة تعترض مسار التقارب، في مقدمتها ضبط السلاح، وتقليص نفوذ الفواعل غير الرسمية، وغياب رؤية واضحة لمسار الاستقرار السياسي والأمني، إلى جانب هشاشة الأطر الاقتصادية وخطط إعادة الإعمار. ويرجح أن يشكل عام 2026 محطة لتثبيت تقارب هادئ ومتدرج، دون اندفاع نحو تحالف شامل.
خلاصة المشهد
في المحصلة، تدير مصر علاقتها مع سوريا بمنهج حذر ومتوازن، يقوم على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة دون القفز إلى شراكة كاملة. وبين تطلع دمشق للعودة إلى محيطها العربي، وحسابات القاهرة المرتبطة بالأمن القومي وضبط التوازنات الإقليمية، يبدو أن مسار العلاقات مرشح للاستمرار في التطور البطيء، خطوة بخطوة، لا أكثر.



