الصين تتموضع بهدوء في الشرق الأوسط: صعود نفوذ بلا ضجيج
سباق تسلّح ناعم يغيّر موازين القوى من دون مواجهة مباشرة مع واشنطن
يعاد رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، لكن هذه المرة بلا حروب ولا قواعد عسكرية جديدة. فالصين، التي لطالما بدت لاعباً اقتصادياً أكثر منها قوة أمنية، تتحرك اليوم بخطوات محسوبة نحو قلب النظام الأمني الإقليمي. وبرغم بقاء الولايات المتحدة الشريك العسكري الأكبر بفارق شاسع، يكشف تحليل بيانات حديثة أن بكين باتت توسّع حضورها في المنطقة بشكل غير مسبوق، عبر مبيعات سلاح موجّهة، مناورات عسكرية ثنائية، وتحركات دبلوماسية متزايدة.
هذا التغيّر لا يعلن نفسه بصوت مرتفع، لكنه يراكم أثراً تصاعدياً، يعيد صياغة معادلات القوة التقليدية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سوق السلاح: واشنطن أولاً… والصين تتقدم بثبات
من 2020 إلى 2024، استورد الشرق الأوسط ون شمال أفريقيا ما يقارب نصف أسلحته من الولايات المتحدة. وتحافظ أوروبا على حصص ثابتة، خصوصاً فرنسا وإيطاليا وألمانيا. لكن قراءة البيانات تشير إلى تحول مهم:
الصين، التي كانت حصتها أقل من 1% مطلع العقد، تضاعفت ثلاث مرات لتصل إلى 3.1%.
وبرغم أنّ الرقم يبدو صغيراً مقارنة بالهيمنة الأميركية، إلا أن اتجاهه تصاعدي وثابت، مدفوعاً بثلاثة عوامل رئيسية:
أسعار أقل بكثير من الأسلحة الغربية.
غياب الشروط السياسية التي تفرضها واشنطن أو العواصم الأوروبية.
القدرة على سد الفراغ في مجال الطائرات المسيّرة وأنظمة لم ترغب الولايات المتحدة ببيعها لسنوات.
وتبرز الجزائر ومصر وموريتانيا كأبرز المشترين. أما السعودية، فبالرغم من شراكتها العميقة مع واشنطن، بدأت تختبر التعاون العسكري مع بكين في بعض الجوانب التقنية.
مناورات عسكرية: حضور جديد في سماء المنطقة
تكشف البيانات المجمّعة أن الصين كانت غائبة تقريباً عن المشهد التدريبي العسكري في الشرق الأوسط طوال السنوات التي سبقت 2020. لكن منذ ذلك العام، نفّذت 18 تدريباً عسكرياً ثنائياً مع دول عربية.
ومن أبرزها:
مناورة “نسور الحضارة 2025” في مصر، وهي أول مناورة جوية بين البلدين في التاريخ.
تدريبات بحرية مشتركة مع عدة دول في شمال أفريقيا.
وفي المقابل، أجرت الولايات المتحدة 55 مناورة خلال الفترة نفسها مع السعودية، الإمارات، البحرين، الأردن، وعُمان. الفارق لا يزال كبيراً، لكنه يشير إلى أن بكين تحاول بناء شبكة شراكات تدريجية لا تهدف إلى الحلول محل واشنطن، بل إلى الحصول على موطئ قدم استراتيجي.
صدام ناعم بين واشنطن وبكين… والسعودية في قلب الاندفاعة
أثار تزايد النشاط العسكري الصيني اهتمام الولايات المتحدة، خصوصاً خلال قمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الأمير محمد بن سلمان. وربطت واشنطن بين هذه التحركات وبين موافقتها على بيع مقاتلات F-35 إلى الرياض، في خطوة حملت رسائل واضحة:
تحصين الأمن الأميركي في المنطقة.
منع توسع النفوذ العسكري الصيني.
وكانت الصفقة نفسها قد تعثرت سابقاً مع الإمارات بسبب مخاوف من اقتراب أبوظبي من التكنولوجيا الصينية.
بكين… قوة بلا تحالفات
رغم توسّع النشاط العسكري والدبلوماسي، لا تزال الصين تمتنع عن تقديم ضمانات أمنية رسمية للدول الإقليمية. أي أنها:
لا تَعِد بالدفاع عن أي دولة.
لا تسعى إلى إنشاء قواعد عسكرية واسعة.
تعتمد على استراتيجية نفوذ منخفضة المخاطر تعتمد على السلاح الرخيص، المناورات الرمزية، والشراكات الاقتصادية.
هذا الأسلوب يمنحها قدرة على التمدد دون تحميلها أعباء الالتزامات التي تتحملها الولايات المتحدة.
موازنة النفوذ: المنطقة بين قوتين
تشير البيانات إلى مرحلة جديدة في الشرق الأوسط:
الولايات المتحدة ما تزال القوة الأمنية الأولى بلا منازع.
الصين تتحول إلى لاعب يتزايد وزنه بهدوء.
دول المنطقة تتّجه إلى سياسة موازنة بين العملاقين بدل الارتهان لأحدهما.
هذه الديناميكية لا تعني تحوّلاً جذرياً في ميزان القوى، لكنها تؤكد أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة متعددة الأقطاب، تتسع فيها دائرة اللاعبين وتضيق فيها المسافات بين ساحات النفوذ.



