«نحنا بدنا المخطوفات»
السويداء تخرج من صمتها.. وصرخة شهبا تكشف جرحاً مستمراً
في شوارع مدينة شهبا جنوب سوريا، خرجت الأصوات تهتف:
“نحنا بدنا المخطوفات.”
هتاف واحد حمل في صداه وجع مئة يوم من الانتظار، وصوراً لنساء وأطفال لم يعودوا بعد.
لم تكن المظاهرة مجرد احتجاج؛ كانت صرخة محافظة بأكملها ضد الغياب وضد الصمت — صرخة اختصرت ما عجزت عنه المؤتمرات والبيانات.
من النداء إلى الشهادة
في قلب هذه الصرخة، تتكثّف الحكايات الفردية التي تصنع مأساة السويداء.
إحداها حكاية عائلة طلال ذيب من بلدة الثعلة في ريف السويداء الغربي — عائلة خُطفت بكاملها في اجتياح تموز الماضي، وباتت صورتهم الجماعية رمزًا للألم السوري المتجدد.
يقف طلال محمد ذيب إلى جانب زوجته محمودة هلال قريشة وابنته ريم، في صورةٍ أرسلها خاطفهم إلى أحد أقاربهم، طالبًا فدية قدرها عشرة آلاف دولار عن حياة كل فرد، قبل أن ينقطع الاتصال نهائيًا.
منذ ذلك اليوم، لا يُعرف عنهم شيء.
حين يصبح الغياب رسالة
العائلة اختُطفت خلال الهجمات الدامية التي شنّتها قوات “السلطة الانتقالية” والميليشيات الموالية لها على قرى الريف الغربي منتصف تموز.
تلك الحملة التي رُوّج لها على أنها “عملية لفرض القانون”، تحوّلت ميدانياً إلى مجزرة وانتهاكٍ جماعي — قصف، نهب، إعدامات ميدانية، وخطف لم يوفّر النساء.
أقارب العائلة تحدثوا لمصادر محلية عن اتصالات متقطعة مع خاطفٍ يُلقّب نفسه بـ«الشيخ أبو علي»، طالب بفدية مالية وأرسل صورة العائلة مهدداً بقتلهم خلال يومين إذا لم تُدفع الأموال.
منذ مطلع أيلول، انقطعت كل الإشارات.
لم يبقَ سوى الصورة — صمتٌ يلتقطه الخاطف كابتزاز، ويلتقطه الناس كجرحٍ جماعي.
المأساة ليست استثناءً
عائلة ذيب ليست الوحيدة.
في اليوم نفسه الذي وصل فيه اتصال “الشيخ”، جرى تواصل مشابه مع عائلة المختطفة إلهام أبو زين الدين، التي فُقدت أيضًا من البلدة ذاتها، إلى جانب الشاب رافي حبيب من ذوي الاحتياجات الخاصة.
تشابه الوقائع يوحي بأنهم جميعاً قد يكونون في قبضة الجهة ذاتها — جهةٍ تعرف الأسماء والتفاصيل، وتعمل في الظل.
السلطة الانتقالية بدورها تُنكر وجود نساء في سجونها، وتعترف باحتجاز أكثر من مئة مدني، بينهم طفل. أُفرج عن بعضهم، لكن خمسين شخصاً على الأقل ما زالوا محتجزين في سجن عدرا.
فيما تبقى النساء المختطفات، مثل محمودة وريم، خارج أي رقمٍ أو إحصاء.
الغياب الجماعي.. الحاضر الوحيد
الاحتجاج في شهبا، إذن، ليس استجابة لواقعة عابرة، بل انفجار شعورٍ عام بالخذلان.
فكل عائلة في السويداء تعرف اسمًا غاب، وصورةً لم تعد.
ومع غياب القانون وتعدد القوى المسلحة، صار الخطف اقتصاداً للخوف، وسوقاً مفتوحاً للحياة والموت.
صرخة “نحنا بدنا المخطوفات” جاءت بعد أن اكتشف الناس أن أحداً لن يطالب عنهم بالعدالة سواهم، وأن أصواتهم — مهما كانت مرهقة — هي السلاح الأخير أمام النسيان.
قراءة خيبر أونلاين
تبدو السويداء اليوم وكأنها تسير على حافة الضوء والعتمة:
ضوء الاحتجاجات، وعتمة الغياب.
بين الصورتين — صورة النساء في مظاهرة شهبا، وصورة عائلة ذيب في الأسر — تتجلى قصة سوريا المصغّرة: وطنٌ يطالب بعودة أبنائه، ولا يسمع إلا الصدى.
الاختطاف هنا ليس حادثة أمنية فحسب، بل تعبير عن انهيار فكرة الدولة نفسها.
وحين تصبح الحرية فدية، والأم تُساوَم على حياتها، تتحول المأساة إلى سؤال وجودي:
من بقي في سوريا، ومن ما زال حرًّا فيها؟



