لبنان يدخل عصر الشفافية القسرية: تعميم "اعرف عميلك" يكشف معركة الظل المالية
إجراء جديد يربك السوق النقدي ويضيّق الخناق على شبكات التمويل الموازي
لم يعد التعامل النقدي في لبنان كما كان قبل 4 ديسمبر. فقد دخل تعميم “اعرف عميلك – KYC” حيّز التنفيذ ليلزم العملاء بالكشف عن معلوماتهم المالية عند أي عملية نقدية تتجاوز ألف دولار، سواء كانت في مصرف أو لدى شركة تحويل أو صيرفة. خطوة تُعدّ سابقة في بلد لطالما غرق في الاقتصاد النقدي والعمليات غير الموثّقة.
لكن خلف هذا التعميم التقني، تختبئ معركة مالية وأمنية باتت علنية: ضبط حركة الأموال في بلد يشكّل ساحة مفتوحة للتحويلات، بعضها شرعي وبعضها عابر للحدود والرقابة.
ما الذي تغيّر فعلياً؟
التعميم ليس جديداً، لكنّ النسخة الحالية حملت تغييرات جذرية:
تخفيض الحدّ الأدنى للعمليات الخاضعة للتصريح إلى 1000 دولار فقط
إلزام المؤسسات المالية إرسال بيانات العملاء إلى مصرف لبنان خلال 48 ساعة
جمع معلومات تفصيلية عن: مصدر الأموال، طبيعة العمل، حجم العمليات، الغرض من التحويل
ووفق الباحثة في القانون المالي الدولي محاسن مرسل، فإن التعميم يضع لبنان في مسار يتوافق مع معايير FATF لتفادي وضعه على اللائحة الرمادية أو السوداء.
لكن الالتزام على الورق شيء، والقدرة على التطبيق شيء آخر.
هل يحدّ التعميم من شبكات التمويل غير الشرعي؟
من الواضح أن واشنطن كانت حاضرة في خلفية القرار.
ففي وقت سابق هذا العام كشف مسؤول في وزارة الخزانة الأميركية أن إيران حوّلت مليار دولار إلى حزب الله خلال عام 2025 عبر قنوات شرعية وغير شرعية.
لكن السؤال الجوهري:
هل يمكن لتعميم مصرفي أن يوقف شبكة مالية تعمل خارج المصارف أساساً؟
تشير مرسل إلى أن النشاط المالي لحزب الله متشعب ويعتمد منذ سنوات على:
التحويلات النقدية المباشرة
تجارة الذهب
العقارات
العملات الرقمية مثل USDT
شبكات نقل الأموال خارج النظام المصرفي
وبالتالي، فإن التعميم يضيّق الخناق على المتعاملين الشرعيين، لكنه لا يلمس قلب الشبكات الموازية التي تعمل خارج السجل الرسمي.
من المستفيد ومن المتضرر؟
بحسب مرسل:
“من ليس لديه ما يخفيه سيلتزم… ومن لديه ما يخفيه سيبحث عن قنوات بديلة.”
وهذا جوهر القضية: التعميم قد يدفع جزءاً من الاقتصاد نحو الشفافية، لكنه في الوقت نفسه قد يزيد حجم “الاقتصاد الأسود” لدى من يريد تفادي الرقابة.
أما المؤسسات المالية، فستواجه:
عبئاً تقنياً بإرسال البيانات فوراً
احتمال خسارة زبائن يرفضون الكشف عن تفاصيلهم
ضغطاً دولياً يجعل الالتزام ضرورة لا خياراً
هل ينجح التعميم في إعادة الثقة؟
الجواب مرتبط بثلاثة عوامل:
قدرة مصرف لبنان على جمع وتحليل البيانات بفعالية
التزام شركات الصيرفة، التي كانت تاريخياً جزءاً من الاقتصاد الموازي
مدى تعاون القوى السياسية والنقدية في ضبط الشبكات غير الشرعية
التعميم خطوة في اتجاه الشفافية، لكنه لا يملك وحده قدرة على تفكيك منظومة التمويل الموازي التي ترسخت لسنوات داخل لبنان وخارجه.



