إيران.. هندسة الفوضى في الشرق الأوسط من أجل مشروعها الخاص
كيف صنعت طهران شبكات نفوذ عابرة للحدود وأعادت تشكيل خرائط عربية كاملة لصالح نفوذها الإمبراطوري؟
على مدى أربعة عقود، لم تكتفِ إيران ببناء تحالفات سياسية في المنطقة، بل أسست مشروعاً متكاملاً يقوم على إعادة تشكيل الشرق الأوسط عبر وكلاء محليين، وتسليح جماعات مسلحة، واستخدام الفوضى كأداة استراتيجية.
الهدف بقي واحداً: توسيع النفوذ الإيراني وخلق منظومة تحكم غير مباشرة داخل الدول العربية.
هذا التقرير يرصد كيف تحولت سياسات طهران إلى محرّك رئيسي لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وكيف دفعت دولاً كاملة إلى الانهيار أو العجز، خدمة لمصالحها الإقليمية.
شبكة الوكلاء.. من لبنان إلى اليمن
سعت إيران إلى بناء نفوذها عبر مبدأ بسيط:
كل فراغ سياسي هو فرصة للتدخل. وكل سلاح خارج الدولة هو استثمار مضمون.
لبنان: السيطرة عبر «حزب الله»
نشأ الحزب كفصيل مقاوم، لكن إيران أعادت تشكيله باعتباره ذراعها الأكثر تقدماً خارج حدودها.
منذ التسعينيات انتقل الحزب من مقاومة إسرائيل إلى بناء دولة داخل الدولة، ثم إلى خوض حروب إقليمية في سوريا واليمن والعراق، ما قوّض الدولة اللبنانية بالكامل وجعلها رهينة توازنات إيرانية.
اليوم يسيطر الحزب على القرار الأمني والعسكري، ويستخدم لبنان منصة في معارك طهران الإقليمية.
اليمن: الحوثيون ونسخة مطابقة من حزب الله
استغلت إيران هشاشة الدولة اليمنية، ونجحت في تحويل جماعة الحوثي إلى قوة صاروخية وإعلامية واستخباراتية مشابهة لحزب الله.
الهجمات على البحر الأحمر، وتهديد الملاحة الدولية، والانقلاب على الدولة اليمنية كلها كانت أدوات لمنح طهران موقعاً استراتيجياً على واحد من أهم خطوط التجارة العالمية.
العراق: من الدولة إلى «الدولة المُسَيطر عليها»
بعد 2003 اغتنمت إيران لحظة انهيار النظام العراقي لتزرع عشرات الفصائل الولائية داخل المجتمع والجيش والاقتصاد.
أصبحت الحكومة العراقية مرتهنة بتوازن معقد بين مؤسسات الدولة والميليشيات التي تديرها إيران، ما أدى إلى شلل سياسي، وانقسام اجتماعي، وانهيار الخدمات، وهجرة نخب واسعة.
سوريا: إنقاذ النظام مقابل تسليم البلد
عندما اندلعت الثورة السورية، تدخلت إيران لإنقاذ بشار الأسد، لكنها حوّلت سوريا مقابل ذلك إلى ساحة نفوذ مطلق.
جلبت ميليشيات من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، وأعادت رسم الخريطة البشرية في مناطق كاملة من البلاد، وفرضت بنية أمنية واقتصادية موالية لها.
النتيجة: نظام باقٍ، لكن بلد مدمر ومقسّم، محكوم بشبكات خارجية أكثر منه مؤسسات وطنية.
اقتصاد موازٍ وتمويل عابر للحدود
اعتمدت إيران نموذجاً فعالاً للنفوذ يقوم على:
تهريب السلاح عبر ممرات بحرية وبرية تمتد من الخليج إلى المتوسط.
شبكات مالية سرية تعتمد على تجارة الذهب، الدولار الكاش، العملات الرقمية، والواجهات التجارية.
اقتصاد ظل في أربع دول عربية على الأقل، يخدم مشروعها أكثر مما يخدم شعوب تلك الدول.
هذا «الاقتصاد الموازي» جعل من الصعب على الحكومات العربية إعادة بناء دولها أو استعادة سيادتها.
إشعال الهشاشة الطائفية
من أخطر أدوات التدخل الإيراني: تغذية الانقسامات الطائفية.
في العراق استُخدمت المظلومية الشيعية لبسط السيطرة.
في سوريا رُوّج لخطاب حماية الأقليات.
في اليمن أُحييت الهوية الزيدية كرافعة عسكرية وسياسية.
في لبنان أصبحت الطائفية هوية سياسية بحد ذاتها.
بهذه الطريقة، خلقت إيران شعوباً منقسمة وولاءات متناحرة تجعل أي مشروع وطني مستحيلاً.
تهديد الأمن الإقليمي والدولي
امتد تأثير إيران إلى ما هو أبعد من حدود الدول العربية:
تهديد الملاحة في البحر الأحمر والخليج.
هجمات بالصواريخ والمسيّرات على منشآت نفطية في السعودية والإمارات.
اعتداءات على قواعد أميركية.
استهداف مصالح دولية عبر وكلاء.
تحولت الميليشيات من أدوات محلية إلى قوى عابرة للحدود تملك قدرات عسكرية واستراتيجية مؤثرة.
الدولة مقابل اللادولة: المعادلة التي غيّرت الشرق الأوسط
أخطر ما فعلته إيران ليس دعم جماعات مسلحة، بل تحويلها إلى بدائل عن الدولة.
بذلك فقدت الدول العربية القدرة على:
احتكار القوة
فرض القانون
إدارة حدودها
الحفاظ على سيادتها
وأصبحت مناطق كاملة تعمل وفق ولاءات خارجية.
النتيجة: شرق أوسط جديد.. لكن على مقاس طهران
ما بين 2003 و2025، ساهمت إيران بدرجة كبيرة في:
انهيار دول كاملة (سوريا، اليمن)
شلل دول أخرى (لبنان، العراق)
تحويل المنطقة إلى شبكة صراعات دائمة
خلق محاور سياسية متصارعة
توسيع نفوذها دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة
هذا المشروع لم يحقق استقراراً لإيران نفسها، لكنه أعاد تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم رؤيتها الإقليمية.
خاتمة: هل يمكن إعادة التوازن؟
تعترف عواصم عالمية أن نفوذ إيران أصبح بنية قائمة بذاتها، لا مجرد سياسة عابرة.
إعادة التوازن تتطلب:
دعم الدول الوطنية،
تفكيك اقتصاد الميليشيات،
بناء تحالفات إقليمية مستقرة،
وإغلاق الفراغات التي تستغلها طهران.
فالشرق الأوسط لن يستعيد استقراره ما دامت هناك قوى موازية تعمل خارج الدولة، وتدار من خارج الحدود.



