مصر وإسرائيل: شراكة غازية تتجاوز الاقتصاد وتعيد رسم خريطة الطاقة في شرق المتوسط
الصفقة تعزز موقع القاهرة كمركز لتسييل الغاز وتمنح تل أبيب دور المورّد الرئيسي للأسواق الأوروبية والآسيوية.
تحوّل استراتيجي في شرق المتوسط
بعد عامين من التأجيلات، تستعد القاهرة لإتمام صفقة الغاز مع إسرائيل خلال أيام. الصفقة التي وُقّعت بالأحرف الأولى في أغسطس ليست مجرد اتفاق تجاري، بل تعكس تحوّلاً استراتيجيًا يعيد رسم خريطة الطاقة في المنطقة، ويضع مصر في قلب معادلة تسييل الغاز وتصديره إلى أوروبا وآسيا، فيما تمنح تل أبيب موقعًا متقدّمًا كمورد رئيسي في ظل بحث أوروبا المحموم عن بدائل للغاز الروسي.
أزمة داخلية وحل خارجي
تعاني مصر منذ سنوات من انقطاعات الكهرباء وارتفاع كلفة استيراد الغاز، ما جعلها تبحث عن حلول عاجلة. الحقول الإسرائيلية بدت خيارًا عمليًا لتأمين إمدادات مستقرة، مستفيدة من بنيتها التحتية في إدكو ودمياط لتسييل الغاز وإعادة تصديره.
تقول المحللة مريم وهبة إن الصفقة تهدف إلى “مضاعفة كمية الغاز الطبيعي المسال التي تستوردها مصر ثلاث أو أربع مرات”.
الاعتبارات الإقليمية والدولية
التعاون المصري–الإسرائيلي يجيء في وقت يشهد إعادة اصطفاف إقليمي. فبينما تبحث القاهرة عن استقرار داخلي وحلول اقتصادية، تتحرك قوى أخرى مثل تركيا وقطر لترسيخ مواقعها في سوق الطاقة. وعلى المستوى الدولي، يندرج الاتفاق في سياق أوسع لمساعي أوروبا لتنويع مصادرها بعيدًا عن روسيا بعد حرب أوكرانيا. ورغم أن حجم غاز شرق المتوسط لا يعوّض النقص الروسي بالكامل، إلا أنه أصبح جزءًا من استراتيجية أوسع لأمن الطاقة العالمي.
إسرائيل من مستورد إلى مُصدِّر
منذ اكتشاف حقلي تمار (2009) وليفياثان (2010)، تحوّلت إسرائيل من بلد فقير بالموارد إلى لاعب رئيسي في سوق الغاز. اليوم، يذهب أكثر من 90% من إنتاج لفياثان إلى مصر والأردن. ويشير الخبير ممدوح سلامة إلى أن بناء خط مباشر إلى أوروبا سيكلف أكثر من تريليون دولار، ما يجعل التعاون مع مصر خيارًا منطقيًا.
المعادلة المقلوبة: من العريش–عسقلان إلى نيتسانا
في 2008 بُني خط العريش–عسقلان لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل. لكن بعد 2011 وتكرار الهجمات في سيناء توقف الضخ. لاحقًا، ومع اكتشاف إسرائيل للحقول الضخمة وعجز مصر عن تلبية الطلب المحلي، انعكست المعادلة: الغاز الإسرائيلي تدفق إلى مصر عبر الخط نفسه ابتداءً من 2020، مدعومًا بخط بري عبر معبر نيتسانا.
التحدي التركي والمنافسة الإقليمية
تركيا بدورها عززت موقعها عبر خط "تاناب" الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، إضافة إلى مشاريع لمد الغاز نحو سوريا بتمويل قطري. أما قبرص، فرغم اكتشافها حقولًا واعدة، تواجه تحديات سياسية تمنعها من ربط حقولها مباشرة بتركيا. وهكذا تبقى مصر الأكثر جاهزية بفضل بنيتها التحتية المتقدمة.
شرق المتوسط.. عقدة الطاقة الجديدة
تُقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأميركية احتياطيات الغاز القابلة للاستخراج في شرق المتوسط بـ3.45 تريليون متر مكعب، ما جعل المنطقة ساحة تنافس إقليمي ودولي. ورغم أن هذه الكميات لا تكفي لتعويض الغاز الروسي، إلا أنها تمثل ورقة استراتيجية لأوروبا، وتضع مصر وإسرائيل في قلب لعبة الطاقة الجديدة.
ما بعد الاقتصاد
من القاهرة إلى تل أبيب، ومن أنقرة إلى بروكسل، لم تعد صفقة الغاز المصرية–الإسرائيلية مجرد اتفاق اقتصادي. إنها تحالف إقليمي يمليه أمن الطاقة العالمي، وقد يعيد تشكيل التوازنات في شرق المتوسط. يبقى السؤال: هل سيكون الغاز جسرًا للتعاون والاستقرار، أم شرارة لصراعات جديدة في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية؟




