وثائق مسرّبة تكشف تعاوناً عسكرياً عربياً إسرائيلياً خلال حرب غزة بإشراف أمريكي
تقرير استقصائي أمريكي يفضح اجتماعات وتدريبات جمعت ضباطاً عرباً وإسرائيليين تحت مظلة القيادة المركزية الأمريكية، وسط تناقض بين التنسيق السري والمواقف العلنية ضد إسرائيل.
تعاون عسكري سري برعاية أمريكية
كشفت وثائق أمريكية مسرّبة عن تعزيز التعاون العسكري بين إسرائيل وعدد من الدول العربية خلال حرب غزة، في وقتٍ كانت فيه هذه الدول تنتقد العمليات الإسرائيلية علناً.
الوثائق التي حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ونشرتها صحيفة واشنطن بوست، تتألف من خمسة عروض تقديمية أعدّتها القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) بين عامي 2022 و2025، وتفصّل طبيعة التنسيق العسكري والأمني بين الجانبين في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة.
اجتماعات وتدريبات منذ ثلاث سنوات
ووفق التقرير الذي أعدّه الصحفي ديفيد كينر بمشاركة دان لاموث، فإن التعاون بدأ قبل ثلاث سنوات عبر اجتماعات تخطيطية في البحرين ومصر والأردن وقطر، شارك فيها ضباط رفيعو المستوى من الجيوش العربية والإسرائيلية، وتركزت على مواجهة التهديدات الإقليمية وإيران، إضافة إلى تطوير خطط لكشف الأنفاق وتحييدها — وهي التكتيكات التي استخدمتها حركة حماس في غزة.
وبحسب الوثائق، عُقدت اجتماعات عدة في قاعدة العديد الأمريكية في قطر، أبرزها في مايو/أيار 2024، حيث حضر الوفد الإسرائيلي مباشرة إلى القاعدة دون المرور عبر المنافذ القطرية الرسمية لتجنّب الكشف عن زيارته.
كما تُظهر الوثائق أن التهديد الإيراني كان المحرك الأساسي لتوسيع هذا التعاون، الذي جاء بإشراف مباشر من القيادة المركزية الأمريكية.
الصورة: رويترز (Reuters)
“هيكل أمني إقليمي” يضم إسرائيل ودولاً عربية
تتحدث الوثائق عن إنشاء ما أسمته القيادة الأمريكية بـ**”الهيكل الأمني الإقليمي”**، ويضمّ إسرائيل وقطر والبحرين ومصر والأردن والسعودية والإمارات، مع الإشارة إلى الكويت وسلطنة عمان كـ”شريكين محتملين”.
ويهدف هذا الهيكل إلى تنسيق الدفاع الجوي ومواجهة الطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية، إلى جانب توحيد التدريب والعمليات المشتركة.
ورغم هذا التعاون السري، واصل القادة العرب في العلن انتقاد الحرب الإسرائيلية، إذ وصفت مصر وقطر والسعودية والأردن العمليات العسكرية في غزة بأنها “إبادة جماعية”، بينما اتهم أمير قطر إسرائيل في الأمم المتحدة بأنها “دولة معادية لبيئتها تبني نظام فصل عنصري”.
أزمة مؤقتة بعد الغارة على الدوحة
ويشير التقرير إلى أن العلاقات واجهت أزمة مؤقتة بعد الغارة الإسرائيلية على الدوحة في سبتمبر/أيلول 2024، لكنها سرعان ما استؤنفت، خصوصاً بعد إعلان واشنطن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المكونة من 20 بنداً لإنهاء الحرب، والتي تتضمن إرسال 200 جندي أمريكي إلى إسرائيل لدعم تنفيذ اتفاق الهدنة، إلى جانب قوات عربية ضمن الهيكل الأمني الجديد لتدريب شرطة فلسطينية بديلة في غزة.
تدريبات في الولايات المتحدة وخطط إعلامية
كما كشفت الوثائق عن تدريبات عسكرية مشتركة أُقيمت في قاعدة فورت كامبل بولاية كنتاكي الأمريكية، تناولت أساليب كشف وتدمير الأنفاق تحت الأرض، فضلاً عن إعداد خطط إعلامية لمواجهة “الرواية الإيرانية” في المنطقة.
وأكد التحقيق أن الوثائق غير مصنّفة سرّية، لكنها وُزّعت على عدد من الشركاء العرب وعلى أعضاء تحالف الاستخبارات “العيون الخمس” الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا.
وقد تم التحقق من صحتها عبر مطابقة التفاصيل مع سجلات وزارة الدفاع الأمريكية والبيانات العسكرية المعلنة، بما في ذلك مواقع الاجتماعات وتواريخها ورتب الضباط المشاركين.
تعاون تحت الطاولة وتحولات هادئة
وفي إشارة إلى الحساسية السياسية لهذا التعاون، شددت الوثائق على أن هذه الشراكة “لا تمثّل تحالفاً جديداً”، وأن الاجتماعات “ستُعقد في سرية تامة لتجنّب الإحراج السياسي”.
كما أظهرت أن السعودية وقطر لعبتا دوراً مركزياً في بناء هذه القنوات، وأن مؤتمراً أمنياً عقد في قاعدة العديد عام 2024 شهد لقاءات ثنائية مباشرة بين مسؤولين إسرائيليين وممثلين من الدول العربية المشاركة.
وشملت الملفات التي نوقشت في الاجتماعات قضايا الأمن الإقليمي، والوضع في سوريا واليمن والعراق، و”التهديدات” التي تمثلها جماعة الحوثي وتنظيم الدولة، إلى جانب متابعة الدورين الروسي والتركي في الساحة السورية.
وبينما امتنعت القيادة المركزية الأمريكية وإسرائيل والدول العربية المعنية عن التعليق على ما ورد في التقرير، ترى واشنطن بوست أن هذه التسريبات تكشف عن تحول هادئ في العلاقات الإقليمية، يجري تحت الطاولة بعيداً عن الخطاب السياسي العلني، ويعيد رسم ملامح التحالفات العسكرية في الشرق الأوسط بعد حرب غزة.
قراءة ختامية – ملامح “الشرق الأوسط الجديد” بعد اتفاق غزة
تشير هذه التسريبات إلى أن ما يُعرف بـ”اتفاق غزة” لم يكن مجرد اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، بل مدخلاً لإعادة صياغة البنية الأمنية في المنطقة، على نحوٍ يُبقي إسرائيل في قلب المنظومة العسكرية الإقليمية، وإنْ بواجهة عربية.
فالتعاون الذي بدأ تحت غطاء “مواجهة إيران” يبدو اليوم نواةً لتحالفاتٍ جديدة تتجاوز الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وتفتح الباب أمام مرحلة تطبيعٍ عسكري غير معلن.
وبينما تُبقي العواصم العربية خطابها العلني متمسكاً بدعم غزة، تكشف الوثائق أن واقع الميدان يرسم صورة مختلفة تماماً: شرق أوسط تُدار أمنه من واشنطن، وتُنسَّق تفاصيله في قواعدها العسكرية، بين شركاء كانوا حتى الأمس على طرفي الصراع.



