عقد من الدعم القطري لزعيم "الهيئة" الجولاني مستمر وسط اضطهاد الدروز في سوريا
المجازر الأخيرة بحق الدروز في السويداء على يد قوات النظام السوري تثير تساؤلات حول استثمار قطر المستمر منذ عقد في التطرف بسوريا
شهدت الايام الماضية تصاعدًا ملحوظًا في أعمال العنف الطائفي ضد الأقلية الدرزية في سوريا، مما يسلط الضوء على طبيعة الدعم الاستراتيجي الذي تقدمه قطر للقيادة الإسلامية الجديدة في البلاد بقيادة أحمد الشرع. وتأتي هذه التطورات في ظل تقارير تشير إلى ارتكاب قوات النظام السوري، بقيادة الشرع – القائد السابق في تنظيم القاعدة المعروف باسم أبو محمد الجولاني – لانتهاكات ممنهجة وعمليات إعدام ميدانية بحق مدنيين دروز. ويطرح هذا الواقع الميداني أسئلة ملحّة حول تداعيات الرهان القطري طويل الأمد على فصائل إسلامية متشددة، والدور الذي قد تلعبه مثل هذه الاستثمارات السياسية في تأجيج النزاعات الطائفية وتعقيد مسارات الحل في سوريا.
الإرهاب الحالي ضد الدروز
تشهد محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية أحد أخطر التهديدات التي تواجه الأقليات الدينية في سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع الملقب بـ”ابو محمد الجولاني” على الحكم. ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، قُتل أكثر من 800 شخص في الاشتباكات الأخيرة، وسط تقارير عن تنفيذ "إعدامات ميدانية منهجية" استهدفت مدنيين من الطائفة الدرزية.
وتنقل شهود عيان صورة مروعة لقوات حكومية تقتحم المضافات وهي مراكز اجتماعية ودينية درزية وتقوم بإعدام المدنيين بدم بارد. كما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة تُظهر "مقاتلين موالين للحكومة وهم يحلقون شوارب شيوخ الدروز عنوة، ويدوسون على أعلام الطائفة وصور رجال الدين".
وقال أحد سكان السويداء لموقع The Media Line: "كنا نظن أنهم جاءوا لوقف العنف، لكنهم بدأوا بإطلاق النار بشكل عشوائي. تم إحراق المضافات، وقُتل الناس دون سبب".
ورغم أن الدولة السورية أصدرت بيانات تدين فيها العنف وتعد بمحاسبة المسؤولين، فإن هذه التصريحات الرسمية تتناقض بشكل صارخ مع استمرار الهجمات المنهجية. وقد وصف الزعيم الديني البارز للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، ممارسات الحكومة بأنها "حملة إبادة جماعية ضد الدروز".
وبحسب تقارير صدرت في يوليو، انسحبت القوات الحكومية السورية بشكل كامل من محافظة السويداء بعد أيام من العنف الممنهج ضد الأقلية الدرزية، وفقًا لما أفادت به مصادر ميدانية ومرصد الحرب. وجاء هذا الانسحاب عقب بيان متلفز للرئيس المؤقت أحمد الشرع أعلن فيه نقل مسؤوليات الأمن في السويداء إلى القيادات الدينية المحلية والفصائل الحليفة، مبررًا القرار بـ"المصلحة الوطنية العليا". إلا أن ما إذا كان هذا الانسحاب سيضع حدًا حقيقيًا للعنف أم يمهد لصراع جديد، فلا يزال أمرًا غير محسوم.
الاستثمار القطري التاريخي في الجولاني
لا يمكن فهم العلاقة الحالية بين قطر ونظام أحمد الشرع دون العودة إلى الجذور المتطرفة لأبي محمد الجولاني، والسجل الموثّق لدعم الدوحة للفصائل التي كان يقودها. ففي عام 2011، منح زعيم تنظيم داعش آنذاك، أبو بكر البغدادي، تفويضًا للجولاني لتأسيس فرع في سوريا، وذلك بدعم مالي مباشر. ومن هنا برزت "جبهة النصرة" في مطلع عام 2012 كقوة بارزة في الحرب الأهلية السورية.
وفي بداياتها، ارتبطت الجبهة بتنظيم القاعدة، إلا أنها سرعان ما دخلت في خلافات مع داعش بعد محاولة البغدادي دمج الفصيلين تحت قيادة واحدة في عام 2013، وهو ما رفضه الجولاني، مما أدى إلى انقسام كبير بين التنظيمين.
وتشير تقارير عدة إلى أن قطر لعبت دورًا محوريًا في دعم "جبهة النصرة"، سواء عبر قنوات دبلوماسية أو من خلال تمويل غير مباشر عبر ما وُصف بـ"مساعدات إنسانية"، وهو ما أثار انتقادات واسعة النطاق من قِبل مراقبين دوليين حذّروا من تداعيات تمكين جماعات مسلّحة متطرفة على مستقبل سوريا والمنطقة.
خلال السنوات الأولى من الأزمة السورية، بدأت قطر بتقديم دعم موثّق للفصائل المسلحة التي باتت اليوم تمسك بزمام السلطة في أجزاء من سوريا، وعلى رأسها الجماعات التي يقودها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني). تقرير صادر عن وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية (DIA) في عام 2016 أشار إلى أن "جبهة النصرة حصلت على دعم لوجستي ومالي ومادي على الأرجح من عناصر داخل حكومتي تركيا وقطر".
وتغطي الأدلة المتعلقة بارتباط قطر مالياً بجبهة النصرة وخليفتها "هيئة تحرير الشام" ما يقارب عقداً من الزمن. فقد وثّق الخبير في شؤون الاستخبارات ستيفن ميرلي زيارات قام بها قادة في النصرة إلى الدوحة بين عامي 2012 و2015، حيث عقدوا اجتماعات مع مسؤولين عسكريين قطريين وممولين معروفين. كما أظهرت تقارير أن قطر سمحت بوجود ممولين للإرهاب داخل أراضيها، بعضهم مُدرج على قوائم العقوبات الأميركية والأوروبية والأممية، وقد استخدموا منظمات خيرية كواجهة لتمرير ملايين الدولارات إلى النصرة.
وفي عام 2020، نشرت صحيفة التايمز البريطانية تقريرًا يفيد بأن قطر موّلت جبهة النصرة بملايين الدولارات عبر فديات مالية وجمعيات خيرية، من ضمنها صفقة بلغت قيمتها نحو مليار دولار في عام 2017 للإفراج عن أفراد من العائلة الحاكمة القطرية، وهو مبلغ يُعتقد أنه عزّز من قدرات النصرة الميدانية والمالية.
ورغم نفي المسؤولين القطريين وجود علاقة مباشرة مع جبهة النصرة، أقرّ رئيس الوزراء القطري الأسبق، حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، في مقابلة عام 2017 بأن "قطر ربما دعمت النصرة خلال السنوات الأولى من النزاع".
وكانت قناة الجزيرة القطرية، الممولة من الدولة، قد لعبت دورًا محوريًا في تلميع صورة الجولاني، إذ خصّته بمقابلتين حصريتين في عامي 2013 و2015، كانت الأولى من نوعها التي يظهر فيها تلفزيونيًا، ما وفر له غطاءً إعلاميًا مهمًا خلال صعوده السياسي وتبرؤه المعلن من تنظيم داعش.
وفي هذا السياق، يقول جوناثان شانزر، المدير التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: "القطريون لعبوا دورًا كبيرًا في إعادة تلميع صورة كل من طالبان وهيئة تحرير الشام. في الواقع، هم أول من طرح فكرة تغيير اسم جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، كوسيلة لإعادة تسويقها دوليًا".
هذه الوقائع تُسلط الضوء على سياسة قطر طويلة الأمد في دعم الفاعلين غير الدوليين في الشرق الأوسط، وخصوصًا أولئك الذين ينتمون إلى تيارات إسلامية متشددة، ما يطرح تساؤلات جدية حول التداعيات الإقليمية لهذا النوع من الاستثمارات السياسية.
العلاقة الاستراتيجية الراهنة بين قطر ونظام الشرع
برزت قطر اليوم كأحد أبرز الداعمين الإقليميين لحكومة أحمد الشرع في سوريا. ففي يناير 2025، أصبح أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أول زعيم أجنبي يزور دمشق بعد عهد بشار الأسد، في إشارة واضحة إلى التزام الدوحة العميق بدعم الإدارة الجديدة.
وقد تعهدت قطر بتقديم مساعدات مباشرة لإعادة إعمار سوريا، بما في ذلك تمويل زيادات في رواتب موظفي القطاع العام، ودعم عمليات مطار دمشق الدولي. كما تعمل الدوحة بالتنسيق مع أنقرة لتوفير محطات طاقة كهربائية عائمة تُسهم في تحسين البنية التحتية المتهالكة للبلاد.
نمط ممنهج لاستهداف الأقليات
تندرج عمليات الاضطهاد الأخيرة التي طالت الطائفة الدرزية في سوريا ضمن نمط مقلق من العنف الطائفي الذي تصاعد منذ تولي أحمد الشرع الحكم.
ففي أبريل 2025، اندلعت اشتباكات طائفية دامية استمرت لعدة أيام قرب دمشق، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 13 شخصًا، بحسب وسائل إعلام رسمية ومنظمات حقوقية. وقد وُصفت هذه الحوادث بأنها موجة ثانية من العنف الموجّه ضد الدروز، تخللتها تقارير عن إعدامات ميدانية وتعذيب، واعتُبرت بمثابة تمهيد لأحداث السويداء الدامية.
وسبق هذه الأحداث، في مارس 2025، هجمات طائفية أكثر دموية في ضاحية جرمانا بدمشق، استهدفت هذه المرة أبناء الطائفة العلوية. وأفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن أكثر من 1500 شخص، غالبيتهم من المدنيين العلويين، لقوا حتفهم خلال تلك الفترة على يد عناصر تابعة لوزارات الداخلية والدفاع وأجهزة أمنية رديفة.
ورغم أن الطائفة الدرزية اتخذت موقف الحياد النسبي خلال سنوات الحرب، إلا أنها أصبحت الآن هدفًا مباشراً لاضطهاد طائفي على يد قوات موالية للنظام الجديد — نظام يحظى بدعم سياسي واقتصادي كبير من دولة قطر، منذ صعود الجولاني إلى الحكم تحت مسمى أحمد الشرع.
ردود الفعل الدولية
أثارت أعمال العنف المتزايدة ضد الدروز موجة قلق دولية متصاعدة. فقد عبّر وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، عن "قلق بلاده العميق" إزاء تصاعد العنف، مشددًا على أن واشنطن تسعى إلى التهدئة وتشجيع الحوار بين الأطراف.
أما إسرائيل، فقد لجأت إلى خطوات ميدانية مباشرة لحماية الأقلية الدرزية، بما في ذلك تنفيذ غارات جوية على مواقع تابعة لقوات النظام السوري. وقد أدانت قطر هذه الغارات في بيان رسمي صدر في 16 يوليو 2025، مما وضع الدوحة في موقف دبلوماسي محرج — إذ وجدت نفسها تهاجم التدخل لحماية أقلية دينية، في الوقت الذي تواصل فيه دعم حكومة متهمة باضطهاد هذه الأقلية.
هذا التناقض يسلط الضوء على التحديات الأخلاقية والسياسية التي تواجهها قطر في سياستها الإقليمية، وعلى طبيعة الثمن الذي قد تفرضه تحالفاتها مع جهات متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين والأقليات في سوريا.
ثمن دعم الجماعات المتطرفة
في وقت تواجه فيه الطائفة الدرزية حملة اضطهاد منهجية، على الرغم من الإدانات الرسمية الصادرة عن الحكومة السورية، تبرز نتائج مقلقة للاستثمار القطري طويل الأمد في قوات الجولاني. فرغم أن الدعم القطري في بداياته كان يُبرَّر بالسعي لإسقاط نظام الأسد، وليس تمكين سياسات استهداف الأقليات، فإن تصاعد العنف الطائفي اليوم يطرح تساؤلات جوهرية حول العواقب البعيدة المدى لدعم جماعات متطرفة.
ويُظهر التباين الواضح بين البيانات الرسمية الصادرة من دمشق وبين استمرار الهجمات الطائفية وجود خلل عميق في بنية الحكم داخل الدولة السورية الجديدة — وهي دولة تحظى الآن بدعم معلن من الدوحة. وما تعانيه الطائفة الدرزية اليوم من انتهاكات يُعد تذكيرًا صارخًا بأن الاستثمار الاستراتيجي في الحركات المتشددة قد يقود إلى نتائج مدمّرة، تتجاوز بكثير الأهداف السياسية المعلنة في بدايات الصراع.
إن ما يجري في سوريا اليوم ليس فقط أزمة محلية، بل نموذج معبّر عن التحديات الأخلاقية والسياسية التي تواجهها الدول التي توظّف الجماعات المتطرفة كأدوات نفوذ — دون حساب كلفة الانفلات الأمني، وتفكك الدولة، وتفشي العنف الطائفي.




