جيل مكسور تحت الرماد: أطفال لبنان يدفعون ثمن حربٍ لا تنتهي
جيل يعيش على أعصاب الحرب: صدمات صامتة تتكوّن في الظل
تحتفظ ميادة وطفلتاها بذاكرة ممتلئة بالانفجارات، رغم مرور أكثر من عام على نزوحهن من جنوب لبنان إلى العاصمة. لم ينجُ أحد من آثار الحرب التي قلبت يوميات العائلات رأساً على عقب، وحوّلت الأصوات العادية إلى مصدر هلع دائم.
تقول ميادة إن طفلتيها، اللتين تبلغان 7 و9 سنوات، ترتجفان عند أي صوت مفاجئ. “هربنا من الحرب، لكنها لم تخرج منا”.
وتتكرر القصة مع آلاف العائلات التي هجّرتها الضربات الإسرائيلية من الجنوب والضاحية، بعد تلقيها رسائل تهديد مباشرة تطالبها بإخلاء المباني قبل استهدافها. الأطفال الذين كانوا يتناولون فطورهم على شرفات المنازل، باتوا ينامون كل ليلة على وقع الكوابيس.
حين يفقد الطفل بوصلته
تقول اختصاصيات في الصحة النفسية إن الطفل لا يمر بتجربة واحدة أثناء الحرب، بل يتلقى “سلسلة صدمات” تُعيد تشكيل دماغه وعواطفه. اضطرابات النوم، التبول اللاإرادي، الخوف من الأصوات، التعلّق المفرط بالأهل، والعزلة… كلها إشارات إلى انهيار داخلي قد يتحول إلى اضطراب طويل الأمد.
وترى الخبيرات أن الأهل، المرهقين بدورهم، قد يتحولون من “مصدر الأمان” إلى “مرآة القلق”، ما يجعل الطفل بلا ملجأ نفسي.
وطن يربّي جيلاً يبحث عن النجاة
يروي أحد الآباء أن ابنه البالغ من العمر ثماني سنوات يركض للاختباء تحت الطاولة كلما سمع صوتاً حاداً. هذا الهروب الغريزي يتكرر في معظم البيوت اللبنانية، وهو ما تعتبره الأخصائيات “بذرة تغيّر مستقبل البلد بأكمله”.
فالأطفال الذين يكبرون في بيئة مضطربة يصبحون أقل ثقة، أكثر غضباً، وأكثر ميلاً للهروب أو الانتماء إلى مجموعات توفر لهم شعوراً بالانتماء والحماية.
الجرح أكبر من لبنان
أرقام اليونيسف ترسم صورة كارثية: 473 مليون طفل يعيشون اليوم في مناطق نزاع في العالم.
وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدها، نزح أو أُصيب أو فُقد أكثر من 12 مليون طفل خلال عامين فقط.
أما لبنان، الذي دخل عامه الثاني من الأزمة الأمنية، فقد خسر أكثر من 300 طفل خلال القصف الإسرائيلي منذ سبتمبر 2024، بينما أصيب نحو 1,500 طفل، كثير منهم بإعاقات دائمة.
المدارس، التي كانت ملاذاً آمناً، تحوّلت إلى مبانٍ مدمرة أو مراكز إيواء.
صدمة تمتد إلى جيل كامل
تحذر الخبيرات من أن عدم معالجة الصدمات سيخلق جيلاً يعاني صعوبة في بناء العلاقات، ويميل إلى العنف أو الهجرة. فغياب الدعم النفسي، وانقطاع مئات الآلاف من الأطفال عن التعليم، يهدد بنشوء طبقة شابة بلا استقرار وبلا أفق.
وتشير الأرقام الدولية إلى أن خسارة كل طفل مقعده الدراسي تعني خسارة وطنية في الإنتاج، وارتفاعاً في نسب الفقر والبطالة، وازدياداً في معدلات الجريمة والانخراط في أعمال خطرة.
مستقبل يبدأ من الطفولة
لبنان الذي يتأرجح بين هدنة هشة وتوتر متجدد، يقف أمام تحدٍ يتجاوز إعادة البناء.
فالأطفال الذين يذهبون اليوم إلى مدارسهم محملين بالخوف، هم المؤشر الفعلي لمستقبل البلد.
ومع كل تأخير في معالجة صدماتهم، تتحول الجراح إلى طبقات يصعب إزالتها، ويصبح الخوف جزءاً من الهوية الجماعية.



